كتب / الغالي الزين
متابعات الخبــــر الســــــوداني
كثيراً ما تعكس لك المرآة صورًا فتجذبك و تستوقفك دونما تريث لمعرفة ماهيتها …. بعض الناس يلهيه فقط ما أبدت له عيناه من مظهر بنظرة خاطفة فيحكم بحسنه أو قبحه ، و يسلِّم به دون تأمل في تفاصيله . و لا يدري ما إذا كان خلف الحسن قبحاً أم خلف القبح حسناً ، و يصبح حكمه عليه مظنة….
و منهم من يستوقفه المظهر و يستهويه التأمل لقراءة ما وراءه و يكون حكمه يقيناً……
الخرطوم بالليل…..
الخرطوم مكاناً هي بقعة خضراء نضراء ، تسربلت باستبرقٍ خضر ، يحاصر جنبتيها نهران يختلفان لوناً و يظلان رمزاً ، يقترنان عند رأسها و ينزلان على طرفيها يجريان كأنمها أذيال عروسٍ ليلة زفاف …..
و رمزاً هي عاصمة السودان و بوابته للعالم و تمثل عزه و شموخه . و ما رأى سودانيٌّ ذلك الإسم إلا وقف عنده مباهياً به مكاناً له قدسيته ، و رمزاً له عزته …..
انتابني يوماً شعور المباهاة بالمكانية ، و الفخر بالرمزية و قد كنت بعيداً عن الوطن . و ما أجمل الإحساس بالوطن في الغربة !، و حين نقتبس من ابن زيدون قبساً ( يكاد حين تناجيه ضمائرنا * يقضي علينا الأسى لولا تأسينا ) …..
موقف حقيقي ذكرته من قبل في قصاصة ذكرى عام ( ٢٠٠٢ م ) و هو قصتي مع عراقي في مدينة بغداد اختار لحانوته ( بار الخرطوم ) أو ( مشرب الخرطوم ) في منطقة حي البتاوين أو الباب الشرقي مجمع كل السودانيين و ملتقاهم و مكان تسوقهم بالمنتجات و تناول الوجبات السودانية . و (المشرب) هو الإسم المعتاد الذي تصادق عليه السلطات المختصة في العراق ل( البار ) …..
لا أريد سرد الموقف بتفاصيله المملة لكن فحواه بأني اعترضت على تسمية ذلك البار باسم (الخرطوم) و دار بيني و بين صاحب البار تلاسن و تركته عندما اشتد التلاسن خوفاً من الاشتباك معه فيجرني إلى شرطة و محاكم و وعدته بأني لن أدع هذا الإسم موسوماً على لافتة مشرب ما دمت بالعراق …..
أبلغت السفير بشرى الشيخ عليه الرحمة بالأمر…. تردد في اتخاذ الإجراءات بداية لكنه حينما سنحت له فرصة لقاء وزير الخارجية العراقي في مناسبة عزاء محافظ بغداد حدثه بعدم رضا سفارة السودان بهذا الموضوع ….
لم يتوانى الوزير عن التحقيق في الأمر فطلب من السفير التأكد من عنوان المحل فوجهني السفير بصحبة القنصل وقتها عبد المنعم أحمد الأمين بتوفير المعلومات عن العنوان كاملاً فذهبنا إلى مختار ( شيخ ) الحي و طلبنا منه ذلك …. رافقنا إلى المكان فنقل بيده اسم البار ( الخرطوم ) و رقم التلفون و الشارع ( البتاوين ) و رقم الزقاق و المحلة ( ٦٥٥ ) على ما أعتقد على مرأى من صاحبه الذي كان يراقبنا داخل السيارة الدبلوماسية بالجانب الآخر مقابل البار و لاحظ وقوفنا مع المختار عرف من إشاراتنا أن في الأمر شيء ما بخصوصه…..
أخذنا المعلومات و تحركنا و شاهدناه وقف مع المختار يبدو أنه أبلغه أن السفارة السودانية طلبت هذه المعلومات فجن جنونه فتذكر موقفي معه قبل يومين و طفق يسبني و يشتمني على مسمع من أصدقائي أصحاب المحال المجاورة له منهم الأخ محمد سعيد لابد الذي ما زال هناك و يمتلك محل تجاري في نفس المنطقة …..
قامت السفارة بناء على معلوماتنا برفع احتجاج رسمي لوزارة الخارجية لإزالة اسم (الخرطوم) من لافتة البار . و ما هي إلا أيام ليوفي وزير الخارجية بوعده للسفير بإصدار قرار من وزارة التجارة لصاحب البار بالتنفيذ فوراً و تم تبليغ السفارة بذلك…..
ذهبت في اليوم الثاني للتأكد من التنفيذ من على البعد فوجدت أن اللافتة بدلت من (بار الخرطوم ) إلى ( بار سركس ) و بحمد الله تمت العملية بنجاح …..
مرة أخرى يستوقفني اسم الخرطوم و أنا بعيد عنها أقاسي مرارة الغربة و التهجير الإجباري بسبب الحرب اللعينة التي اشتعلت بعد مغادرتي بشهرين للاستشفاء بالقاهرة……
الموقف هذه المرة يختلف بأن ذاك كان صراعاً مع شخص و هذا صراعٌ مع النفس ! ……
أثناء تصفحي لوسائل الاتصال قرأت عنواناً لفيديو ( الخرطوم باليل ) …..
هذا العنوان استدعى أحاسيسي و رجع بي للذاكرة البعيدة ……
ظننت أن الفيديو سيحدثني عن الخرطوم في باكورتها قبل أن تتمدد و تترهل و تنمحي معالم جمالها التي تغنى بها كبار المغنين و الفنانين ، حيث كانت شوارعها محصورة و متاجرها محدودة و سكانها من الطبقة الارستقراطية و تحج إليها دول الجوار ….
كنت أظن أن الفيديو سيحدثني عن موضة الثياب في ذلك الوقت ( كرب السادة ، و مصر البيضا ، و الزراق ، و ابو قجيجة و رسالة لندن ، و خرطوم بالليل . ) …..
و حسبته أنه اختار الخرطوم بالليل مدخلاً للحديث عنها و عن موضات الثياب في ذلك الزمان ليجذب انتباه المشاهد كما اتخذه صاحبنا العراقي مدخلاً لجذب الزبائن من السودانيين ( خاصة ) ……
لكن وا أسفي ! ….
قد خاب ظني ، و تبدلت أحاسيسي ، و أصابني الإحباط و اليأس ، و ارتعدت فرائضي ، و كاد قلبي يتفطر ، فنزلت من عيني الدموع دون استئذان !! …….
الفرح و الأسى لا يحتاجان استئذان ، بل هما حالتان كامنتان في دواخل الإنسان……
يتأثران بالاستفزاز العاطفي و يعبران عنه كل حسب الحالة …..
هي حالة الأسى و الحزن التي حاصرتني و أنا أشاهد فيلم ( الخرطوم بالليل ) و لم تبدُ لي ملامحها القديمة التي تغنى بها سيد خليفة و احمد المصطفى ، و لا شوارعها التي مشى فيها الازهري و عبود و المحجوب ، و لا الرعيل الأول ممن حرروها من دنس الاستعمار ، و لا (بهرجتها) و ثيابها التي كانت تشع بريقاً ليلياً يحاكي أنوارها ……
لم تبدُ لي الخرطوم الحديثة بشوارعها الواسعة و عماراتها الباسقة و صالاتها و منتزهاتها و باحاتها ….
لم تبدُ لي الخرطوم الوضيئة بشوارعها المضيئة …… بل بدت لي غابة في لجة لم يظهر منها إلا شعاع من سيارة كانت تتجول لتحدثنا عن مأساتها …..
بنايات منهارة …. غابات تحجب الجروف ، و نفايات و روائح تزكم الأنوف…..
شوارع مترَّسة بأسقف العمارات و مخلفات الذخيرة و آثار المجنزرات و حطام العربات ……
كباخرة رست على شاطيء بحرٍ لجي خلد قطبانها إلى الراحة بعدما أودعوها الحبال و السقالات ….. تفوح منها رائحة الزفارة و يطوف حولها حرس الخفارة ….. و خلت من المارة إلا من قطٍ ليلي يعبر الشارع أو كلبٍ يتوسد ذراعيه متخماً من جيف و جثامين العدو التي خلفتها نيران قواتنا المسلحة ….. و اختفت معالم شوارعها و لا تكاد تميز بين شارع السيد عبد الرحمن و الجمهورية و الجامعة و البلدية و علي عبد اللطيف الممتدة من أقصى غربها إلى منتهاها في القيادة و كأنها أعمدة تستند علها المدينة …..و لم يبد لي شارع النيل . و ما أدراك ما شارع النيل ذلك الشريان الرابط بين مدن العاصمة الثلاثة الخرطوم و ام درمان و بحري ، و من منا لم يسلك هذا الطريق في ذهابه و إيابه من البيت إلى العمل أو التنزه ! …..
هكذا بدت الخرطوم بالليل كساها الظلام و مزقت منها الأعلام و صابت قصورها السهام ….
ما استطعت مواصلة الفيديو فقطعته و ما زال في الصدر كلام …..
فاعذرينا يا خرطوم و إن عز بنا المقام سنعود و تعودي و تبقي خالدة بشعبك و جيشك الهمام …..
سلام خرطوم سلام …..
سلام شعب و جيش سلام ……
عذراً إذا استعصت العبارات بحقك و عز منَّا الكلام …..
فأنا و أنت و غيرنا الكل مضام ……
ونختم باقتباس من ابن زيدون ( بِنْتِ وبِنَّا فابتلَّت جوانحنا * شوقاً إليك و ما جفَّت مآقينا ) …..
الغالي الزين حمدون
٢٠٢٥/٤/٢٠م
القاهرة…..