متابعات الخبــــر الســــــوداني
اطّلعت على السيرة الذاتية لوزير الإعلام الاتحادي الأسبق، والسياسي السوداني المخضرم، بونا ملوال، حيث تكلّم في مذكراته بصراحة لافتة عن تدخلات أبوظبي في السودان. ما ورد في مذكرات بونا ملوال ينقض نقطتين جوهريتين في دعاية حكومة دولة العدو في أبوظبي وكمريراتها من السياسيين والإعلاميين السودانيين؛ وهما:
١- أن أبوظبي منذ عهد الشيخ زايد قوة للخير والعمل الإنساني التنموي على مدى عقود، وأن تآمرها/تدخلها الحالي هو طارئ “لحماية مصالحها”.
٢- أن تآمر أبوظبي ضد السودان الدولة والأُمّة جزء من رفضها المُبرّر لأي نفوذ في السودان للكيزان، وكأن لها الحق في تحديد كيف ومن يحكم السودان.
بونا ملوال ذكر أن علاقة المعارضة كانت قوية -تُقرأ تلقت تمويل إماراتي- مع الشيخ زايد وولده محمد بن زايد في التسعينيات خلال طور “التجمع الوطني الديمقراطي”، وتناول كذلك تنافس أقطاب المعارضة على العلاقة مع قيادة أبوظبي -أي التنافس على التمويل الإماراتي- والواضح طبعاً استغلال المعارضة وقتها لقضية حرب الخليج وموقف الكيزان الرافض لإدانة احتلال العراق للكويت.
بداية الاقتباس من كتاب ملوال
“قرر التجمع الوطني الديمقراطي إرسال وفد إلى دول الخليج لطلب الدعم. وقد ترأستُ هذا الوفد لأن قادة التجمع رأوا أن علاقاتي الشخصية مع بعض القادة الخليجيين ستكون مفيدة. وفي نهاية المطاف، زرنا فقط الإمارات حيث التقينا الشيخ زايد في أبوظبي. كان إيجابياً للغاية، وربطنا بابنه محمد بن زايد، الذي اجتمعنا به عدة مرات. وأبلغنا أنه يحتاج إلى بعض الوقت لتجهيز الدعم المطلوب للتجمع.”
لاحقاً، يوضح ملوال أن الشيخ زايد بالفعل قدّم دعماً مالياً للتجمع، لكن هذا الدعم أثار انقساماً داخلياً حين سافر محمد عثمان الميرغني إلى الإمارات بشكل منفرد، برفقة أفراد من عائلته، وتلقى دعماً لم يُعلن عنه لبقية قيادة التجمع.
وواصل ملوال:
“زار الميرغني الإمارات بعد لقائي بالشيخ زايد، دون تنسيق مع بقية قيادة التجمع الوطني. وبدأت الشائعات تنتشر بأنه تلقى تمويلاً لم يُصرّح به. طلب مني بعض قادة شمال السودان التحقق من الأمر، فذهبت لمقابلته في لندن. وعندما سألت، انفجر غضباً وقال: (لدي أموال أكثر من أي شخص في السودان. حتى النظام البائس في الخرطوم اعترف علناً بأنه مدين لي بـ65 تريليون جنيه. لا أحتاج إلى أموال من أحد). لم يكن الاجتماع مع الميرغني حضارياً على الإطلاق.
نهاية الاقتباس
عقب سنوات قليلة من زيارة ملوال لأبوظبي ولندن انقلب الموقف الإماراتي رأساً على عقب. احتضنت أبوظبي نظام البشير الإسلامي الذي كانت تموّل معارضيه، واستقبلت البشير في زيارات رسمية، وقدّمت له دعماً اقتصادياً وأمنياً، وكان النظام الإسلامي يتحوّل ليصبح أحد وكلاء أبوظبي المباشرين لأجندتها التوسعية في الإقليم، كما تخلّت أبوظبي عن المعارضة التي رعتها، فقامت بترحيل وطرد معارضين وتسليمهم لنظام البشير الإسلامي وسعت لترسيخ دعائمه.
الوجه الحقيقي للسياسة الإماراتية هو مصالح باردة تُدار من غرف الأمن والاستثمار. الإمارات لا تعادي الإسلاميين كمبدأ، ولا تدعم المعارضات كقضية، بل توظّف الطرفين وفقاً للّحظة السياسية. تعادي النظام اليوم لتبتزّه غداً. تدعم المعارض الآن لتساوم به لاحقاً، وكل من يرتضى لنفسه الدخول في سوق النخاسة السياسية قابل لأن يصبح كرت ضغط في لحظة ما.
التناقض الآخر هو ما حاول أنور قرقاش، مستشار شيطان العرب، تصويره أول أمس بنشر خطاب من السبعينات عن أن أبوظبي -والشيخ زايد- ما انفكّت تكون قوة للعمل الخيري الإغاثي في السودان، وهو إدّعاء تنسفه أبوظبي أمس واليوم، تنسفهُ بمُسيّراتها الصينية طويلة المدى التي تدمر منشآت الصحة والتعليم والمصانع واستهدافها الأخير لمحطات نقل وتوليد الكهرباء في وسط وشمال البلاد. أيّ “خير” هذا؟ إن مجرّد التعامل مع هذا الخطاب صار ضرباً من العبث!
حكومة دولة العدو في أبوظبي كانت وتظل تستعمل المال كأداة للتفكيك السياسي وانتهاك سيادة الدول واستبدال المجتمعات والعبث باستقرارها وتماسكها اذا استدعى الأمر، وتُغلّف تدخلاتها بخطاب إنساني زائف، بينما لا ترى في شعوب المنطقة ومواردهم سوى أدوات قابلة للشراء أو الاستغلال.
أما فيما يتعلق بالاستنتاجات حول الممارسة الداخلية، فإنه معلوم بالضرورة أن إخراج الأحداث من سياقها التاريخي فعل غير حكيم، ولا يؤدي لفهم جيد للأمور، فتمويل أبوظبي لمعارضة نظام الانقاذ كان نتيجة لطبيعة الصراع الإقليمي حينها، ولكن قبول المعارضة السودانية المتجدد بأن تكون مخلب قط لمصالح إقليمية -حينها والآن- يحكي عن معضلة لا تنتهي في الخيال السياسي السوداني.
استسهال القوى السياسية السودانية -يمينها ويسارها- أن تخدم مخططات ومؤامرات إقليمية بسذاجة وعمى جيوسياسي مدهش ظلّ أمر مرتبط بطبيعة تكوينها الفكري والنفسي قبل أن يكون مرتبط بطبيعة الصراع السياسي الصفري غير الدستوري الذي لا يجد غضاضة في هدم الدولة واستتباعها، مقابل أن يحظى فصيل معيّن بكرسي السلطة، ولو على أنقاض الدولة، ولو على متن دبابة محتل أو تاتشره.
إن سلف “التجمع الوطني” كان “الجبهة الوطنية” المتحالفة مع القذافي عام 1976، وسلف أولئك موجودون عندما نفتح سجل التبعية السياسية، وآخر خلفهم هو القحاطة ومن يدور في فلكهم.