متابعة : الخبر السوداني
لا يغيب على متابع أن السودان منذ تاريخ تكويناته القديمة الى عصر الدولة الحديثة مر بمنعطفات أحدثت تغييراً واضحاً و اثراً بالغاً قي بنيته المجتمعية و مساراته السياسية و حدوده الجغرافية . ذلك لأنه لم تكن بداية تكوينه دولة موحدة تحت نظام حكم واحد يحدد هويته و مساره السياسي بل كان عبارة عن دويلات و ممالك و سلطنات قامت على الهوية الدينية ( مسيحية و إسلامية ) أو القبلية أو المناطقية فرسَّخت كل منها معتقداتها و أفكارها العقدية أو عمَّقت مفاهيمها القبلية …
ظلت هذه المعتقدات و المفاهيم في تنافر لم يجمع بينها حد أدنى للوطن و الوطنية . لذلك كان التربص للإستحواذ و احتكار السلطة و ابتلاع الآخر و فرض واقعه حاضراً في دواوين حكمها . مما خلق نوعاً من التعصب للمعتقد و القبيلة و المنطقة مع غياب رؤية لتوحيد السودان و التوافق على طريقة حكمه حتى دخول المستعمر الذي فرض حكمه بالقوة بتذويب الدويلات القائمة تحت راية الدولة الحديثة . و حدد بموجب سلطته حدود لدولة السودان الحديثة . و أنشأ إدارات حديثة للحكم استوعب فيها بعض البيوتات الطائفية و الإدارات الأهلية لما لها من أتباع و مريدون يأتمرون بأمرها و لا يخالفونها رأيي . فخلق منها بؤرة نفوذ تخدم سياساته و مصالحه ، و تحقق أهدافه و غاياته على المدى القريب و البعيد ….
و لأن التوريث و التكريس مسألة معقدة تشترك فيها كل ألوان الطيف ( الحزبي ) و (القبلي) و (الطائفي) و (السياسي) و (الطرق الصوفية) ، و تتفاوت درجاتها من فئة الى أخرى ، سأحاول تصنيفها حسب رأيي الشخصي بدأ من : .
- التوريث و التكريس الطائفي : _
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ارتبط السودان في تاريخه السياسي بالبيوتات و الطوائف الدينية ذات الأغلبية المجتمعية و التي كان لها التأثير المباشر في الأحداث على المستوى المجتمعي و السياسي . و من أهم هذه الطوائف طائفتي الأنصار و الختمية . وهما طائفتان في نشأتهما دينيتان لهما أتباع و مريدون يتميزون بإلتزامهم بأوراد الطائفة و تلاوتها اليومية ، لكن بدخولهما العمل السياسي ( الختمية ) مثلاً ، و النضالي و السياسي في آن واحد ( الأنصار) أصبحتا واجهتين سياسيتين مؤثرتين في ميزان السياسة السودانية . فانطلى عليهما اللون السياسي ، و نأتا بأتباعهما كحال كثير من الأحزاب الدعوية من منبر الدعوة إلى معترك السياسة و الكفاح المسلح ( أحياناً) للوصول إلى السلطة بالتضامن مع حركات التمرد المسلحة ( الحركة الشعبية ) بقيادة جون قرنق مع اختلافه معهم في الدين و المعتقد و الهدف !! فأصبح الطابع الديني مجرد رمز لعراقة تاريخ الأجداد و الأسر عند هذه الطوائف … تعتبر طائفتي الأنصار و الختمية من أكبر الطوائف و البيوتات الدينية التي حظيت بإمتيازات من الأراضي ، و حظي أبناؤها بتعليم خاص و ابتعاث للجامعات البريطانية دون غيرهم من عامة الشعب …
لم تكن هذه الإمتيازات نتيجة تفوق في الأداء الوظيفي أو مكافأة نتيجة أعمال بطولية بقدر ما هي محاولة لاستنساخ هذه الطوائف و البيوت و ضمان المحافظة على جيناتها بتمكينها من الأرض و المال و السلطة الموروثة كهدف و منفذ دائم يؤتى به السودان متى أراد المستعمر و هو أيضا من الأهداف (البعيدة) المرمى . فعمل على تكريس سلطة الحزب داخل البيت . و عمد بذلك إلى إضعاف النظرة للمصلحة الوطنية و تحويلها إلى مصالح ذاتية انحصرت في كيفية محافظة هذه الطوائف على مقاعدها في السلطة و أراضيها الخاصة . و حصرها في الأسرة دون الأتباع حتى لو ادى ذلك لحمل السلاح و الاستقواء بالعملاء و الأعداء ، و ما دعم حزب الأمة للمعارضة المسلحة الممثلة في الدعم السريع و الإصطفاف مع حواضنه( تقدم ) و توقيعه للاتفاقيات معها لتأجيج الحرب على الجيش الوطني إلا مثال حي للميول للاستقطاب السياسي عوضاً عن الديني ….
بهذه التقلبات تحولت هذه الطوائف من دينية نضالية لتحقيق وحدة الدين و الوطن ، إلى كيانات سياسية (ملكية) تتقاسم الولاءات و الطاعة و تقديس الشخصيات لتمكين السلطة حصراً في دائرة الأسرة التي لا يأتي الباطل من بين يديها . فجثمت على صدر السودان منذ استقلاله إلى يومنا هذا .فظلت تهيم على وجهها متيممة القبل مدعية التهميش و الاضطهاد السياسي و أن أرض السودان لا تسعها إلا وهي في الحكم . و إلا لن يستقر الأمر لغيرهم و لن يستقر السودان ما داموا هم خارج حكمه . و كأنهم يقولون إنما خلقنا (لنحكم) لا غير !! … - توريث الإدارات الأهلية
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
هذا النوع من التوريث أقل تأثيراً في صراعات الحكم و السلطة ، لأنه يراعي مصلحة أفراد القبيلة فيمارس نوعاً من المرونة في الزهد فيهما مكتفياً بحدود حواكيره و عائدات قطعانه و سلطته على أتباع قبيلته ، و كثيراً ما يستقيم في خط الوطن ويصطف مع من ينادي بوحدته و صونه بغض النظر عن لون أو تصنيف من ينادي بالوحدة سياسياً ….
نعم هذه الفئة قننها و أطَّر لها المستعمر فنال ابناؤها التعليم العالي مبكراً بتسهيل من المستعمر ، و استفادت من امتيازات الأرض التي أصبحت مملوكة للقبيلة حتى اليوم ….
غير أن ملكيتها للأرض تعود لمصلحة أفراد القبيلة و ليس لرئيس الإدارة الأهلية لتورث لأبنائه ….
فالمصلحةهنا (مجتمعية) أكثر من كونها (شخصية) أو (أسرية) كما يحدث عن الطوائف و البيوت الأخرى التي استحوذت على مساحات كبيرة من الأرض في مناطق نشأتها و نفوذها و في قلب عاصمة البلاد تم تسجيلها حصراً بإسم الأسر و ليس للأتباع شبر منها . إضافة إلى إدعاء بعض هذه الطوائف و البيويات الصفوة و الخق في ميراث حكم السودان على مر الأزمان فيجمع ببن التوريث و التكريس … لكن انضمام بعض هذه القبائل للقتال في صفوف الدعم السريع المتمرد ضد جيش البلاد ، و انضوائها تحت مخطط إعلان دولة عرقية لقبائل عربية بعينها ، يترك الباب موارياً لإعادة النظر في قانون الإدارات الأهلية و تحديد سلطاتها و صلاحياتها على مستوى السودان … - توريث الطرق الصوفية : _
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
وهو من أنواع التوريث المعروف في السودان بالخلافة في البيتوتات الصوفية لكن هذا النوع لا يورث سلطة و لا أرض ، و لايستحوذ على مساحات منها إلا بالقدر الذي يسع دور علمه و عبادته . و شعارهم المحبة في الله و يقولون في أثرهم ” الما عنده محبة ما عنده الحبة “. و تقوم الطرق بالصرف على دورها وضيافتها بطرقها الخاصة بعيداً عن السلطة إلا من دعم أو هبة تقدم لها ….
هذا النوع من التوريث لا علاقة له بالحكم و السلطة أو الأرض إنما يتم في إطار المحافظة على الطريقة الصوفية المتوارثة بالعلم أباً عن جد ، و في أغلب الأحيان تكون وسيطاً يلجأ إليه المتنازعون في الحكم و السلطة و غيرها من النزاعات و يحكمونها لتقريب و جهات النظر و فض النزاع فيما بينهم ….. يؤهل الخليفة في الطرق الصوفية من أهل البيت منذ صغره مشبعاً بالقرآن و علومه و الأوراد و الأسرار المتواترة عن الأجداد . و لا تخضع لمنافسة من خارج الأسرة لكون المنافس من خارجها غير ملم بأسرار الخلافة ، و ليست لديه إمكانية الصرف على الخلاوى و طلابها و ضيوفها ، لأن الصرف هنا يتم من قبل شيخ الطريقه من خاصته أو دعم المجتمع . و ليس للمنافس في الخلافة من خارج الأسرة إذا رأى أهليته لها إلا الإنفصال بالتي هي أحسن و بإذن من شيخ الطريقة و البحث عن مقر لتشييد صرحه و دوره و كسب مؤيديه و مريديه بإجتهاده الخاص بعيداً عن مقر الطريقة الأصل …
و التوريث في الطرق الصوفية لا يضر بمصلحة الدولة و لا مصلحة الأفراد . بل يكون الفرد مخير في اتباعه للطريقة أو تركها عملاً بقاعدة لا ضر ولا ضرار ….
لذلك يكون التوريث والتكريس جائزاً في حالته ما دام مبنياً على هذه القاعدة و لا يضر بالدولة أو المجتمع و لا يجوز فيما عداه . - توريث الوظيفة :
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، وهذا يعد من أقبح و أخطر أنواع التوريث و التكريس لأنه يتغول على مصلحة الأفراد و الدولة من غير استحقاق و يضع غير (المناسب) في المكان المناسب و العكس ….
اذا نظرنا في كل مؤسسات الدولة و وزاراتها نجد أن توريث الوظيفة واضح وضوح الشمس و تكريسها لا تخطئه عين ….
في أغلب الوزارات يتم التوريث عن طريق الأسر . فقد تجد أكثر من شخص من أسرة واحدة في وزارة أو شركة أو مؤسسة أو قسم من اقسامها . و إذا تتبعنا تسلسل هذا التوريث نجده ممتد منذ توظيف الجد الأكبر في المؤسسة لنصف قرن على أقل تقدير . و ربما تجد بينهم من وصل إلى درجات الترقي من غير مؤهل و ما أكثرهم ! .
و بالطبع هذا ليس حصراً على نظام حكم واحد على مر السودان ، بل أشتركت فيه كل أنظمة الحكم المتعاقبة على السودان …
رغم أن التكريس لا يختلف عن التوريث لكن تتفاوت فيهما الدرجات . فبينما هما يتلازمان في الإدارات و الطوائف بنسب متفاوته في حدود الحواكير و التبعيات ، إلا أنه يتعداه في الممؤسسات و الدوائر الحكومية لتمكين القبيلة أو الحزب في كل المرافق . و يعد هذا نوع من الإستحواذ على مقدرات الدولة و حصرها في فئات معينة و محددة قد تكون مقدراتها ضعيفة مما يضر بمصلحة المواطن و الوطن ، و به يختل العمل الوظيفي ، و ينسحب عليه توليد الغبن و الإختلاف و الخلاف . و يفسح المجال للإستنصار و الإستقواء بالأجنبي إعتقاداً في الحصول على الحقوق . فتتفجر النزاعات و يصبح القتال و الإقتتال وتيرة يومية تؤرق المواطن ، و تعمل على تهجيره و تشريده ، و يتمزق الوطن ، و يصبح فريسة في يد الأعداء و الطامعين ، و لقمة سهلة في أفواه المتربصين … - توريث و الأحزاب :
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الأحزاب ليس لها توريث لتعدد و تباين مشارب مناصريها و مؤيديها _ ما لم _ تربطهم قدسية شخص أو طائفة . و إلا تفرقوا كل حزب ما لديهم فرحون ، لكنها تكرس السلطة في يد أتباعها بمشاربهم المختلفة دون تمييز للبيوت أو القبيلة . إلا على المستويات الفردية فيلجأ البعض لتقريب أهله و عشيرته بطرق ملتوية . و هذا التقريب و التخصيص في الوظائف أيضا يسلب حقوق الآخرين و يؤثر على الأداء في دواوين الدولة … - التكريس الجغرافي :
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ويعتبر أخطر من سابقيه من أنواع التوريث و التكريس لأنه يعتمد التوظيف و التشغيل من منطقة جغرافية محددة فيخلق تكتلات جغرافية على مستوى الأقاليم و يحدث اصطفاف إقليمي بدواعي التهميش فيتحول هذا الإصطفاف إلى حركات مسلحة لإنتزاع حقوقها بقوة السلاح كما حدث منذ الاستقلال و إلى اليوم تكون هذه الحركات في حالة ضعف و تبحث على المناصرة حتى تستميلها جهات خارجية لها أجندة خاصة و تتواثق معها على مساعدتها للوصول إلى السلطة بقوة السلاح .و هذا ما أوصل السودان للحالة التي يعيشها الآن من قتال و محاولات تمزق و تقسيم . و هو هدف استراتيجي خارجي مدفوع الثمن و غير منظور للإنسان العادي …
أنا مع التعددية الحزبية التي تفضي إلى وحدة الوطن ، و صون إنسانه و موارده ، و حماية حدوده ليعيش المواطن في أمن يوفر له طرق آمنة لكسب العيش الكريم ، و يحفظ له كرامته و عرضه و ماله ….
و خاتمة قولي أن التوريث و التكريس هما آفتا السودان و لن يتعافى من مرضه إلا ببترهما و استئصالهما من جذورهما و يكون سودان ما بعد الحرب مبرأ من عيوبهما … يسع الجميع و يقبل التنوع و الحريات التي لا تتعدى على حقوق الغير …
سودان يتساوي فيه الناس في الحقوق و الواجبات … كلهم لآدم و آدم من تراب … لا تفضيل بنسب أو انتماء لطائفة أو حزب …
سودانٌ يكون الضعيف فيه قوي حتى يرد له حقه من القوي ، و القوي فيه ضعيف حتى يتنزع منه حق الضعيف …
سودانٌ إذا سرق فيه الشريف يقام عليه الحد …
سودان ملك للجميع و ليس لطائفة أو قبيلة أو حزب أو جهة أو جهوية..
سودانٌ تطيب فيه النفوس ، و تتعارف وتأتلف فيه الأرواح ، و يكتنفه الحُب حتى ترتع الشاة في مرتعها لا يخاف عليها من سارق أو ذئب …
و هذه أمنية كل الشعب……..
الغالي الزين حمدون
٢٠٢٤/١٠/٢٨م