الخبر السوداني

الغالي الزين..الشبهات في صناعة الفيديوهات

رصد -الخبر السوداني

أصبحت الفيديوهات في زمننا هذا من أكثر وسائل التوثيق رواجاً بجانب الكتابة و التصوير و التسجيلات لما لها من ميزة في سرعة نقل الصور الحية التي تشد انتباه المشاهد و تملك كل حواسه للتركيز عليها . و هي وسيلة مؤثرة في نقل الأحداث المباشرة مما يساعد في نشر التوعية المجتمعية بكل نواحي الحياة . لذلك تجد أغلب الموثقين للأحداث يفضلونها عن بقية وسائل التوثيق الأخرى وإن كان رأيي بأنها ( الفيديوهات ) سلاح ذو حدين حينما تدخل عليه فنون ( الدوبلاج ) . و في هذه الحالة يمكن تحويل الحدث بفعلها من سالب إلى موجب أو العكس فيصحبه خلل في المصداقية قد يؤدي إلى خصومات و حروب بين الناس …
الحديث هنا لا يشمل الموثقين و المؤرخين الذين ينتهجون الأساليب العلمية و يتحرون المصداقية فيما ينقلونه ، لأن هؤلاء يوجهون مقاصدهم في الغالب لنفع البشرية و تبيان الحقائق للناس .
أما الذين يحملون كاميرات الهواتف الذكية لتوثيق المواقف العابرة فخطورتهم أنهم يعملون حسب هواهم و بعيداً عن المنهجية ، و كثيرا ما تستهويهم المجاملة لغرض تلميع شخص أو منطقة أو قبيلة ، فيطلقون عليها أوصافاً ، و يطلون عليها الواناً من الزينة التي لا تمت للواقع بشيء فتثير الجدل و الغلاط و التخاصم حول محتوى الفيديو المنشور . التوثيق أصبح علم من العلوم التي تدرس بالجامعات و له مختصين في شأنه ، لذلك لن أخوض في الحديث عن أدبياته لأني لست من (خبازيه) …
كثيراً من الفيديوهات و الأفلام التي شاهدتها في مواقع التواصل أثارت جدلاً واسعاً و مغالطات (بعلم) و بغير (علم) و كل من المتجادلين يحاول اقناع الآخر بمصداقيتها أو عدمها . فتتوسع دائرة الجدل إلى مناصرين لكل من الفريقين قد تؤدي هذه المناصرة إلى تشويش الحقيقة في أذهان المحايدين و البعيدين عن الحدث ، و غالباً ما يتأثرون بالرأي السالب و ينسحب عليه التأثير على سلوكيات مجتمع بأكمله و تتأثر علاقاته بناء على معلومات مضللة وتصبح بين الشد و الجذب .
من الفيديوهات التي استوقفتني كثيراً فيديو عن مدينة بارا بشمال كردفان و هي منطقتي التي ترعرعت في بواديها و حضرها . فظلت صورها و الحديث عنها عالقاً بذهني ينعكس كالمرآة أمام ناظري كلما نجيب ( طاريها ) … ويتراءا لي من جمالها ” دار الريح تاريها مشتولة المنقة فيها “… و فيستهويني سقياها ” بشيل الجوز بسقيها ” … ثم تسدعيني حمايتها ” بحاحي الطير ما يجيها ” … و لا أدري ما اذا كان صانع هذا المحتوى متخصص في التوثيق و يعلم أسراره و خفاياه ، أم هي مجرد هواية أراد أن يظهر بها مدينة بارا التي لا تحتاج إلى مواد ( زينة ) ليقدمها لناظريها في زينة أبهى من التي هي عليها .
من يوثق عن بارا تأريخاً و جمالاً و معرفةً عليه الإلمام بكل الجوانب التاريخية و الجمالية و المعرفية و البيئية و الجغرافية و مكوناتها العرقية . و اذا أدرك الموثِّق ذلك فلن يحتاج إلى مساحيق زينة أو رتوش ليجمل بها خدود بارا أو حواجبها .. لانها بت أصول و أصيلة … خدودها زاهية ونضيرة … عيونها ساحرة و كحيلة … فيها جمالٌ ما بتصور ، و ست بنُّوت بارا بيها الفريق نوَّر ….
أراد المقدم أن يلبسها ثوب الجمال لكنه أخطأ ثوبها ، فخلع منها ثوب النيم الوارف و اللبخ الطارف ، و خضرة السواقي النايحة عصرية تصفق بأجنحة البلوم و ترقص (لقوقاي) قميرية ، فألبسها ثوب (العارية) ! …
ألبسها ثوب النخيل الشامخ عندما قال إنها مدينة يظللها النخيل و لم تكن بها غير نخيلات شارفات في إحدى سواقيها بوسط المدينة فمضين بعامل الزمن و لم ير لهن اثراً اليوم ! …
و الداخل إلى بارا من شمالها أو جنوبها يجد نفسه يسير تحت ظلال النيم و اللبخ المتشابكة لتكون قوس قزح بلونٍ أخضر يرمي بظلاله على مسافة لا تقل عن الكيلو مترين لا يرى من خلالها شمساً و لا زمهريرا ، و لا تكاد تقع عينه على يابسة من عتمة السواقي المنسقة بأشجار الليمون و المفروشة بالخضر الممتعة للبصر …
و النخيل ليس رمزاً لمدينة بارا لكنه ذلك اللبخ الطارف الذي ما زال يتمدد في وسط المدينة مذكراً بمحكمة ( زانوق ) و يجعلك تتخيل ” الزول السنونو بروق في محكمة زانوق ” و صورة عبد الله ود جاد الله كسار قلم ( مكميك ) ماكميكل …
أردف المتحدث و يبدو أنه عمنا مهدي السيد عليه الرحمة و هو رجل مجتهد و من أعيان مدينة بارا و مثقفيها . أشار إلى أن بارا مدينة تاريخية كانت تحت حكم السلطان هاشم المسبعاتي وهذه معلومة تاريخية صحيحة لا تفوت على رجل مثقف مثل العم مهدي السيد حيث كانت كردفان تحت حكم المسبعات تتجاذبها سلطنتي الفور غرباً و الفونج شرقاً . لكن ملاحظتي من كلامه أنه اختصر سكانها سابقاً في قبيلة العوامرة التي لايوجد لديها اليوم أي أثر من سلالة أو أرض في داخل بارا و أريافها الممتدة لكنه أصاب بذكر وجودهم في السنط شمال شرق الأبيض و هو مقرهم الحالي و يوجد فيه مقبرة جدهم الفقيه بريمة الرغوم الذي يدفن فيه أهل الجزء الشمالي من مدينة الأبيض موتاهم . و ربما نسي سهواً المجموعات العباسية التي طاب لها المقام في بارا قدوماً من العراق بعد غزو التتار و القضاء على الدولة العباسية في القرن السادس الهجري . و هؤلاء دليل وجودهم واضح حتى اليوم من آثار مقابر أجدادهم ( إدريس بن قيس الجد الأكبر ، ابراهيم جعل ، عبد الله الحرقان ، ضواب ، و ابو الديس ) و حيازتهم للأراضي و السواقي داخل بارا . إضافة إلى وجود بطون منهم تتمثل في الجوامعة ( الحمران ) و هم أولاد مرج و اولاد جامع و الغنيمية تتمدد قراهم و أراضيهم من نواحي الجنوب و الشرق و الشمال إحاطة بمدينة بارا على شكل ( حدوة ) مفتوحة على الإتجاه الغربي على الحدود الغربية لقبيلة الجوامعة مع قبائل دار حامد . مع العلم أن مدينة بارا أصبحت حاضرة لرئاسة نظارة دار حامد بعد ام سعدون . و تضم أعراق متعددة من بطون القبائل الوافدة كالشايقية و الدناقلة و الركابية و البديرية الدهمشية الذين آلت إليهم عمودية مدينة بارا ( آل شداد ) او الشدداب كما يسميهم أهل بارا . هذ التنوع العرقي جعل من بارا مدينة قومية ضربت أروع مثال في التعايش السلمي ….
من المعلومات الملفتة في هذا الفيديو إشارة المقدم إلى وجود مرقد أو ضريح السيد الحسن المرغني بمدينة بارا و تم عرض قباب و أضرحة من مدينة كسلا تبدو للمشاهد الذي لم يقف عليها أنها في مدينة بارا ، و أعتقد أن مثل هذا العرض يشوه حقيقة مهمة ، و هي أن السيد الحسن ليس له مرقد أو ضريح في بارا لكن له قبة صغيرة في وسط المدينة كشاهد ودليل على مكان ميلاده و أمه من بارا فاطمة بت جلاب و لزواجها بمن المرغني قصة مشهورة . و يقال أن ( سرته ) دفنت في هذه القبة . أما هو فقد غادر مدينة بارا طفلاً مع والده و ترعرع في مدينة كسلا إلى أن توفي ودفن بها . هذا دلالة على أن مرقده بكسلا و ليس ببارا ! …
من الشبهات الأخرى أن مقدم الفيلم ذكر أن قرية ( أم بالجي ) تتبع لريفي بارا . و هذه معلومة ليست في محلها و الصحيح أن قرية أم بالجي تتبع لإدارية البحرية التابعة ريفي أم دم حاج أحمد …
أخيراً برغم نقص المعلومات يحمد للفلم أنه سلط الضوء على مدينة بارا و أصاب في ذكر شعرائها و كتابها و فنانيها و منارات علمها لكنه أغفل علماءها و خيِّريها و سياسييها . كما أنه يتيح المجال للكتاب و المهتمين بشأن التراث و التوثيق للمداخلات و إضافة و تصحيح بعض المعلومات بما يتوفر لديهم لرفع هذا الفيلم لدرجة فيلم وثائقي مستوف لكل شروط البحث و التحقيق و التدقيق و التوثيق و يكون ضمن مستندات دار الوثائق ….
هذا ما أردت توضيحه بمقالي هذا باجتهاد خاص راجياً أن يكون محفزاً للبحث و النقاش المفيد لإخراج وثيقة تستفيد منها الأجيال القادمة في بحوثها و دراستها ….

و بالله التوفيق …
الغالي الزين حمدون
٢٠٢٤/١١/٩م

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.