الخبر السوداني

قضية المعدنين تطفح في الواجهة …

كتب / الغالي الزين

تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر دخول (45000 ) ألفاً من المعدنين الشباب أعمارهم ما بين (25_ 30) عاماً لولاية نهر النيل بعد الحرب بستة أشهر ، و كل هؤلاء يحملون أرقام وطنية من منطقة (بارا) بالتحديد …..
اولاً يشكر للجهات الأمنية بولاية نهر النيل جهدها المقدر في الاحتراز و التحوط الأمني الذي يضمن الاستقرار في المنطقة خصوصاً لأنها أصبحت المأوى الوحيد الآمن لجميع أبناء الشعب السوداني . كما أنها كانت ملاذاً امناً للحكومة المركزية و استقبلت كثيرا من الموسسات و المقار الحكومية الاتحادية جنب لجنب مع ولاية البحر الاحمر إضافة الى أنها أصبحت منطقة اقتصادية جاذبة بظهور التعدين و مركز تجاري هام يرفد بقية ولايات السودان بالبضائع و المؤن الغذائية الواردة عبر البحر الأحمر و مصر حيث استقطبت مدينة عطبرة تحديداً أغلب تجار أسواق ولاية الخرطوم و الولايات المتأثرة بالحرب فأصبحت مركز تجاري هام يقابله من الجانب الآخر مركز مدينة الدبة بالولاية الشمالية الذي يمثل شرياناً أساسياً في تغذية ولايات غرب السودان خصوصاً بالبضائع و الغذاء كما أنهما اصبحت مناطق نزوح……
عطفاً على الميزات التجارية و المركزية التي اكتسبتها هذه المدن بعد الحرب و جذبها للتجار و العمال و النازحين من كل أنحاء السودان و التي خلقت منها بؤرة قومية تتجه اليها الانظار من الداخل و الخارج ، فمن البديهي أن يصحب هذا الاستقطاب الداخلي استقطاب خارجي قد تتخلله خلايا خارجية مخربة و مدسوسة بمستندات سودانية رسمية نتيجة الخلل و التلاعب الذي حدث في الاوراق الثبوتية مع قيام الحرب . لذلك لا يستبعد حدوث تفلتات امنية و مساعي تخريبية تستدعي أن تكون العيون الأمنية مفتوحة لتجنب أي انفلات أمني قد يحدث …..
بالطبع هذه المحاذير تجبر الجهات الأمنية على اتخاذ كافة التدابير لاستباب الأمن في المنطقة لكن يجب أن تكون هذه التدابير مبنية على حيثيات حقيقية و معلومات دقيقة حتى لا تقع هذه الجهات في فخ الفتنة الذي يسعى لها المأجورون لضرب النسيج الاجتماعي المتبقي …..
أنا لا أريد الدخول في مرافعات عن هذه القضية لأني لست قانونيا و لا جهة أمنية تمتلك ما يثبت صحة ما ورد في هذا الموضوع أو نفيه . لكني من المتابعين و المهتمين بالشأن العام و الأحداث و التداعيات التي انتظمت البلاد بسبب الحرب و انعكاسها على المجتمع . و لن أجزم بأن هذه الحرب لم يمتد تأثيرها إلى أي من مدن و قرى و أرياف السودان …
ولن أجزم بتعافي أسرة أو جماعة أو فرد من المجتمع السوداني من آثار الحرب . لكني اتحفظ على كثير مما يثار من تصريحات و فيديوهات و مغالطات و تقارير قد تصب الزيت على النار في الوقت الذي تعيش فيه البلاد هشاشة أمنية…….
بهذا أردت القول بأني جزء من مجتمع كردفان على (العموم) و مجتمع بارا على (الخصوص) بحكم الميلاد و العيش و الدراسة و التواصل و الرحم و الإلمام بتفاصيل مجتمع هذه المنطقة .
و أن منطقة بارا من أكثر المناطق أمنا ً و أماناً و استقراراً و تماسكاً من أي بقعة من بقاع السودان . و لعل عدم تعدد الأعراق و الإثنيات و التحلي بالقيم و الاعراف المجتمعية والأخلاق الكريمة و قبول الآخر و الانسجام و تنظيم الحواكير و الأراضي و الرعي أكسبها هذه الميزة و جعلها بعيدة عن الاحتكاكات و الصدامات بين مكونات المنطقة….
فالمجتمع هنا مجتمع تصالحي للحد البعيد . لا يلجأ للثأر و التقاضي في أغلب قضاياه إلا من أحداث محدودة تفوق طاقته . أما بقية القضايا فطابعها الجودية و الإصلاح و العفو ( الفُراش ) …..
و الفُراش مصطلح (تصالحي) يسود هذه المنطقة و يعني التنازل عن الحكم أو جزء من استحقاق الحكم للخصم تقديراً للمجلس أو الأجاويد ك( دَيْن ) مستحق على الخصم سواء كان فرد أو جماعة يلزمهم المعاملة بالمثل في حالة حدوث اعتداء من الجانب الآخر يستوجب محاكمته …..
لذلك تجد عبارة ( البفرِّش بَنُوم ) حاضرة بعد كل صلح و توافق على الحكم في اي قضية بين متخاصمين……
هي ليست تزكية لمجتمع المنطقة ، لكنها حقائق معاشة و ملموسة لأن مجتمع بارا ليس بدعة من المجتمعات الأخرى كما أنه ليس مجتمع ملائكي معصوم . بل هو جزء من الجسد السوداني يتداعى معه و له بالسهر و الحمى و يصيبه ما يصيب أهل السودان ….
و ما الحصار الماثل أمامنا على مدينة بارا الآمنة من قبل مليشيا الدعم السريع إلا شاهد على تداعيات الحرب التي أصابت جسد السودان الذي هي جزء منه…..
قد لا يعلم كثير من الناس أن منطقة بارا هي من أكثر المناطق المزدحمة بالسكان و تسكنها قبائل محدودة من عرقية عربية حصراً من بطون مختلفة يربطها رباط الدين و الدم و الرحم و اللغة و الأرض و المواطنة و هي صاحبة الأرض و الإدارة في المنطقة ….. تتكون منطقة بارا من محليتين وهما (بارا) و (غرب بارا) و تتبع لهاتين المحليتين (١٧) سبعة عشرة إدارية و ( ٣٧٥ ) قرية و بها مدن رئيسية بجانب بارا وهي جريجخ و أم قرفة و أم سيالة و أم كريدم و المزروب و طيبة …..
و منطقة بهذا الحجم لا بد من أن تكون عامرة بالسكان سيما أن كل عوامل الاستقرار متوفرة من ماء و زرع و رعي و أمن ……
هنا تحضرني طرفة في لقاء تلفزيوني مع السيد غلام الدين عثمان الذي كان والياً لشمال كردفان في السابق و على ما اذكر ان هذا اللقاء كان عام ٢٠٠٧ وهو مديرا لصندوق الاسكان القومي .
سألته المذيعة :
كنت والياً لشمال كردفان ثم والياً لنهر النيل ما هو وجه الشبه فأجاب بدون تردد قائلاً :
لا يوجد أدنى وجه شبه …
قالت : كيف ؟
قال :
في نهر النيل إذا قطعت مسافة عشرة كيلو متر من البحر تجاه الصحراء ربما تضل الطريق و لا تعود ، أما في شمال كردفان فأنك بعد كل عشرة دقائق تجد نفسك في قرية و لن تضل الطريق .
ثانياً أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في نهر النيل محصورة مع البحر و مع تمدد الأسر ربما تجد عشرة أو عشرين أسرة تعيش على فدانين ، أما في شمال كردفان فالمساحات الزراعية واسعة و زائدة على عدد الأفراد و تجد الفرد منهم يزرع بضع افدنة مع تربية قليل من الأغنام يوفر قوت عامه بكل سهولة و أن مجتمع كردفان متسامح و يقبل الآخر لذلك تجد أن أغلب الشباب من نهر النيل و الشمالية و الجزيرة و الولايات الأخرى الذين وفدوا لشمال كردفان لم يرجعوا و استقدموا أسرهم لأنهم امتلكوا بيوت و محال تجارية و توفرت لهم أسباب العيش …
فاذا كانت هذه العوامل وفرت للوافدين من خارج المنطقة سهولة العيش فمن الطبيعي انها تجعل من السهل على الشباب في أعمار صغيرة امتلاك قطيع من الأغنام أو الجمال و يعتبر هذا من الأمور المحفزة للأسر لتزويج أبنائها في أعمار مبكرة خصماً على التعليم مما جعل نسبة الإقبال على التعليم ضعيفة . لذلك نجد نسبة الإنجاب بمعدلات عالية في منطقة بارا مقارنة بالمناطق الأخرى بسبب الاستقرار الذي تنعم به…..
و من الطبيعي أنه يتوجب على الصبي المتزوج تحمل المسؤولية الأسرية التي تتطلب توفير العيش الكريم مما يحدو بهؤلاء الشباب للبحث عن مصدر دخل يومي إضافي فكانت التجارة هي الخيار الأقرب و المتاح لهم لكنها كانت تقليدية متجولة بين الأسواق الاسبوعية و المدن فيما يسمى بأسواق ( أم دورور ) . و عندما ظهر التعدين ترك هؤلاء الشباب مهنة الرعي و الزراعة و التجارة و لجؤوا إلى مناطق تعدين الذهب منذ أوقات مبكرة . و قد أثرى كثير منهم من التعدين لكنهم لم يوظفوا هذا الثراء في قوالبه الصحيحه و كان أقصى ما في طموحاتهم امتلاك سيارة ( ركوب ) موديل للتباهي فقط قد يفقدها في أيام أو أشهر بسبب الاستخدام غير المرشد فيلجأ لبيعها بأبخس الأثمان أو هجرها لتتعرض لدفن الرمال و الصدأ و التشليع برغم ان (واحد من عشرة ) منهم استطاع توظيفها في الزراعة البستانية التي تتوفر كل مقوماتها في المنطقة لكنها بطرق تقليدية لم تؤتي أكلها كما هو مطلوب…….
إذن بناء على هذه المعطيات يمكن القول أن الاحصائية التي أشار لها تقرير الأجهزة الأمنية في نهر النيل قد يكون صحيحاً . و يدعم هذا الزعم هو توقف الدراسة وقت الحرب الأمر الذي جعل الأسر بالدفع بكل أبنائها في سن المدرسة و دون ( العشرين ) إلى مناطق التعدين مع اشقائهم أو آبائهم و أقاربهم فتوكل إليهم أعمال صغيرة تناسبهم مقابل أجر يناسبها . و بالتالي لن تجد اليوم طفلاً دون العشرين متواجد في قرية من قرى هذه المنطقة …..
عليه من هذا المنطلق فإن وجود عدد بهذه الضخامة من الشباب في سن (٢٠_ ٢٥) سنة خارج المنظومة التعليمية يتطلب الوقوف عنده برؤى تنموية بعيداً عن المزايدات السياسية التي قد تحول هذا الكم من الشباب من منتج يعول عليه و يساعد في استقرار المجتمع إلى متسكع و قاطع طريق يتم توظيفه من جهات مخربة تستخدمه في زعزعة الاستقرار !!
دعوتي للجهات الأمنية و المسؤولة التعامل مع مثل هذه الملفات بكل تروي و حكمة و يجب تناولها من الجوانب الإيجابية لتخلق منها عوامل للبناء بدلاً من عوامل للهدم …..
كما أني أشير لأن امتلاك هؤلاء الشباب مستندات رسمية و دخولهم لمناطق التعدين في الستة الأشهر الأولى من الحرب دلالة على صدق توجههم للعمل و الكسب الحلال و بالتالي لن يكونوا يوماً من الأيام طرفاً في نزاع مسلح (إلا) إذا تعرضوا إلى ضغوط تتسبب في قطع مصدر رزقهم . لذلك يتوجب تقنين عملهم و حمايتهم من الاستقطاب السالب و توجيه طاقاتهم و مكتسباتهم لتنمية مناطقهم بصورة علمية تسهم في استقرار منطقتهم و أمن البلد عامة …..

الغالي الزين حمدون
٢٠٢٥/٤/٢١م
القاهرة ..

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.