كتب / أحمد علي عبدالقادر
في دهاليز السياسة الخليجية، تختمر تناقضات لا يُكشف عنها في العلن، لكنها ترسم معالم صراع نفوذ مكتوم بين حليفين ظاهريين: السعودية والإمارات. صراع لا يتعلّق فقط بالسياسة، بل بإعادة تعريف من يقود الخليج، ومن يملك مفاتيح النفوذ الإقليمي في ظل انسحاب أمريكي جزئي من المنطقة. لكن أكثر ما يثير الريبة هو تجاهل إدارة ترامب للإمارات رغم تقاطع المصالح، الأمر الذي يعكس ديناميكيات أعمق مما يبدو على السطح.
وهنا نضعكم في صورة مباشرة مع أبعاد الصراع الخفي والذي هو بمثابة منافسة ناعمة برائحة البارود
فالزعامة المؤجلة منذ توقيع اتفاق “العُلا” في يناير 2021، بدا واضحاً أن تحالف الرياض – أبوظبي لم يعد متماسكاً كما كان. رغم التنسيق في ملفات مثل حرب اليمن، فإن الإمارات بدأت تنفذ أجندة خاصة في الجنوب اليمني، عبر دعم المجلس الانتقالي الجنوبي، في وقت تسعى فيه السعودية للإبقاء على وحدة اليمن كأولوية استراتيجية.
تقارير استخباراتية أوروبية كشفت أن أبوظبي تموّل شبكات ضغط قوية في واشنطن ولندن عبر شركات لوبي أمريكية، بهدف تحجيم الدور السعودي وإبراز نموذج “الدولة الحديثة المنفتحة” التي تمثلها الإمارات، مقابل النموذج المحافظ الذي تقوده السعودية.مما يعكس التضارب في مراكز التأثير.
على عكس الموقف السعودي، أقامت الإمارات قنوات اتصال أمنية مباشرة مع إسرائيل حتى قبل اتفاقات أبراهام، وشاركت في عمليات استخباراتية مشتركة لرصد تحركات إيران في الخليج، ما أعطاها نفوذاً موازياً أثار حفيظة الرياض. كما أن وجود قواعد استخباراتية إماراتية في القرن الأفريقي – لا سيما في إريتريا وسقطرى – يعتبره السعوديون تجاوزاً صريحاً لأدوارهم التقليدية، علاوة على محاولة الإمارات السيطرة على جيران السودان لتطويقه بنفوذ إماراتي يعرقل الجهد و النفوذ السعودي بالمنطقة مثل تشاد و جنوب السودان و إثيوبيا و كينيا و أوغندا والصومال.
هنالك سؤال يطرح نفسه لماذا تجاهل ترامب الإمارات؟
للإجابة على هذا السؤال علينا قراءة عقلية ترامب حيث يعتمد على صفقات القوة الصلبة، فالرئيس ترامب لم يكن معنيّاً بتعقيدات الشرق الأوسط بقدر ما كان يركّز على من يدفع أكثر. والسعودية – بقيادة بن سلمان – قدمت أكبر صفقة سلاح في التاريخ الأمريكي المعاصر (110 مليار دولار)، معظمها نقداً. و بالأمس أعلنت الاستثمار بمبلغ 600 مليار دولار و كشف ترامب عن مبلغ ترليون بنهاية الاربع سنوات سوف تستثمر بهم المملكة العربية السعودية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، أما الإمارات، من جهة أخرى، سعت لاقتناء مقاتلات F-35، لكن الفيتو الإسرائيلي أوقف الصفقة مؤقتًا رغم وعود ترامب، ما جعل النفوذ الإماراتي العسكري في واشنطن أقل فاعلية.
رغم الانتقادات العالمية لمقتل جمال خاشقجي، حافظ ترامب على دعمه المطلق لمحمد بن سلمان، بل عمل على تعطيل تقارير استخباراتية تدينه، وفقاً لتسريبات من وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA). بينما لم يبدِ الموقف ذاته تجاه محمد بن زايد، الذي كان يُنظر إليه داخل البيت الأبيض كشريك استخباراتي لا أكثر، هذا حجم محمد بن زايد عند ترامب مما اغضب ابن زايد في الآونة الأخيرة و شعوره بأن محمد بن سلمان سحب منه بساط الزعامة على الشرق الأوسط، رغم انه فعل كل الممكن و بعض المستحيل لإرضاء إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية، ففتح سفارة للكيان الصهيوني و لم يمنحه الزعامة، و دعم بشار الأسد في آخر أيامه فلم يجدِ نفعاً، و حارب اليمن وليبيا فكانت المحصلة صفرية في دوائر القرار الغربي.
اما في موضوع النفط كأداة جيوسياسية فالسعودية لا تزال تملك مفتاح استقرار أسعار النفط العالمية، وهو ما يجعلها الشريك المفضل لأي رئيس أمريكي. خلال أزمة انهيار أسعار النفط في 2020، تدخلت الرياض بطلب من ترامب لتخفيض الإنتاج وضبط الأسواق، في حين تبنّت الإمارات موقفًا أكثر براغماتية تجاه شركات النفط الخاصة.
وفي معلومات غير متداولة تعكس لك من يراقب من نجد أن برنامج “رافين” الإماراتي أورد وثائق مسربة من وكالة الأمن القومي الأمريكي عام 2019 كشفت أن الإمارات جندت خبراء أمريكيين سابقين في الاستخبارات الإلكترونية ضمن مشروع تجسسي داخلي وخارجي، استهدف حتى مسؤولين سعوديين. هذا البرنامج أغضب البنتاغون، وحرّك الشكوك حول مدى “التحالف الحقيقي” بين الإمارات وواشنطن.
في عام 2018، نشطت أبوظبي في دعم مليشيا محلية في السودان وهي الدعم السريع وليبيا حفتر بمعزل عن التنسيق مع الرياض، عبر ضخ أموال مباشرة لقادة عسكريين، الأمر الذي اعتبره الديوان الملكي السعودي “خروجاً على روح التحالف” و اعتبرته الرياض دبلوماسية ظل ضدها.
خلاصة الأمر فإن صراع الزعامة الحالي مغلف بثوب التحالف فقط فلم يعد الصراع بين السعودية والإمارات صراعاً مكتوماً فقط، بل أصبح صراعاً استراتيجياً مؤجلاً للانفجار، محكوماً بمصلحة اللحظة، وبـ”تحالف الضرورة” لا “تحالف الرؤية المشتركة”. والولايات المتحدة – وبالذات خلال عهد ترامب – استغلت هذا التنافس لتعظيم مكاسبها الاستراتيجية، وللإبقاء على الخليج في حالة “توازن غير مستقر”.
“التحالفات الخليجية اليوم تشبه الجليد الرقيق.. قد تبدو متماسكة من الأعلى، لكنها تتشقق من الداخل”
و بزيارة ترامب الأمس للسعودية و غزله في سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأنه يحبه جدا و أنه الأقوى بين حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في العالم يكون قد حسم الأمر تماماً لمصلحة المملكة العربية السعودية التي استحقت هذا الدور عن جدارة بسياسياتها الخارجية الناجحة والفاعلة دون التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان كما تفعل الإمارات و محمد بن زايد.
فهل نحن أمام تفكك تدريجي علني لمحور الرياض – أبوظبي؟ أم استمرار الحرب الباردة؟