الخبر السوداني

لقاح ضد الفساد: هل يمكن محاربة الفساد بأدواته؟

عثمان ميرغني | حديث المدينة الخميس 10 يوليو 2025

متابعات الخبــــر الســــــوداني

تصنيع لقاح طبي ضد مرض معين يتطلب زرع نسخة مخففة من الجرثومة المسببة للمرض في جسم الإنسان لتحفيز إنتاج أجسام مضادة بشكل طبيعي. فهل يمكن تطبيق هذا المبدأ لمحاربة الفساد في الدولة؟

في روسيا خلال تسعينيات القرن العشرين، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تفككت منظومة الحزب الشيوعي والدولة الأمنية الصارمة، مما أدى إلى فوضى سياسية واقتصادية. سادت عمليات الخصخصة العشوائية للقطاع العام، وانتشرت الجريمة المنظمة (المافيا) في مفاصل الدولة، خاصة في القطاعات الإيرادية مثل الجمارك والضرائب. سيطرت هذه الشبكات على قطاعات اقتصادية حيوية، وسحقت أي محاولات للمقاومة، مما أدى إلى ظهور طبقة منتفعة من الفوضى انتشرت في أرجاء البلاد.

لكن مع مرور الوقت، أدرك الجميع – بما في ذلك بعض أطراف النفوذ – أن استمرار الفوضى سيهدد الجميع، وليس الفقراء والمحرومين فقط. فالدولة المنهارة لن تكون ملاذًا آمنًا لأحد، بما في ذلك المستفيدون من الفساد، إذ لن يتمكنوا من التمتع بثرواتهم في ظل جحيم الفوضى.
في هذا السياق، ظهر فلاديمير بوتين كشخصية قوية قادرة على إعادة النظام. لم يكن صعوده نتيجة اختيار مباشر من المافيا، كما يُشاع أحيانًا، بل بدعم من النخب السياسية والأمنية الموالية للرئيس بوريس يلتسين. ومع ذلك، يُعتقد أن بعض شبكات النفوذ، بما فيها تلك المرتبطة بالجريمة المنظمة، رحبت بظهور شخصية مثل بوتين، لأن استقرار الدولة كان يصب في مصلحتها. بوتين، بفضل خلفيته الأمنية وخبرته كمدير لجهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، نجح في فرض سيطرة الدولة وتقليص نفوذ المافيا التقليدية.
السودان اليوم يعاني من الفساد بجميع أشكاله: إداري، مالي، استغلال النفوذ، والتواطؤ. على مدى عقود، جُربت أدوات مختلفة لمكافحة الفساد، من تشكيل مفوضيات ولجان خاصة إلى تشريعات أكثر صرامة وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية والنيابة. لكن النتائج ظلت دون المستوى المطلوب، بل إن الفساد ازداد قوة وشراسة بعد تغييرات الأنظمة السياسية المتكررة.
هل يمكن للسودان أن يستلهم تجربة روسيا؟ الفكرة المقترحة هنا هي تحويل الفساد نفسه إلى أداة لمحاربته، على غرار تصنيع اللقاحات الطبية. بمعنى آخر، زرع جرثومة “مخففة” من الفساد في جسم الدولة لتحفيز مناعتها الذاتية. هذا يعني جعل المستفيدين من الفساد يدركون أن مصلحتهم تكمن في استقرار الدولة ومكافحة الفساد، بدلاً من الاستمرار فيه.
كيف يمكن تحقيق ذلك عمليًا؟ يتطلب الأمر استراتيجية تجعل المفسدين يرون أن مكافحة الفساد تحمي مصالحهم أكثر من استمراره. على سبيل المثال، يمكن خلق حوافز للتعاون مع السلطات، مثل تخفيف العقوبات مقابل الكشف عن شبكات الفساد، أو إعادة توجيه الثروات المكتسبة بشكل غير مشروع نحو مشاريع تنموية تخدم الدولة. الهدف هو تحويل المفسدين إلى خط دفاع أول ضد الفساد، تمامًا كما تُحفز الأجسام المضادة جسم الإنسان على مقاومة المرض.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.