وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
متابعات الخبــــر الســــــوداني
يشكّل خريف هذا العام 2025 اختبارًا حقيقيًا لقدرة البلاد على مواجهة تحديات التغير المناخي، التي يُخشى أن تُحدث أضرارًا كارثية على مستوى البنية التحتية، والمجتمعية . فقد أصدر المجلس القومي للدفاع المدني مطلع الأسبوع تحذيرات مبكرة من أمطار غزيرة غير مسبوقة قد تضرب ولايات وسط وشرق السودان، إلى جانب دارفور وكردفان، ما يرفع احتمالية وقوع فيضانات مدمّرة تهدّد حياة المواطنين وممتلكاتهم، وتضعف قدرة الدولة على الاستجابة للطوارئ الإنسانية.
تشير بيانات غرفة الإنذار المبكر التابعة لهيئة الأرصاد الجوية إلى مؤشرات مقلقة، حيث يُتوقَّع أن تتجاوز كميات الأمطار هذا العام كل السجلات التاريخية، بما في ذلك مواسم 1946 و1988، مع امتداد الفاصل المداري شمالًا حتى وادي حلفا. هذا التحوّل المناخي يضع البلاد بأكملها تحت الحزام المطري، ويضاعف المخاطر في ظل غياب الجاهزية الفنية، خاصة أن كثيرًا من مشروعات حصاد المياه لم تخضع للصيانة خلال العامين الماضيين، بسبب الحرب وتدهور الأوضاع الأمنية.
في هذا السياق، تبرز أهمية تفعيل الاستراتيجية الوطنية المعروفة بـ”صفرية العطش”، التي تهدف إلى حصاد المياه كمدخل لتعزيز الأمن المائي والغذائي في السودان. هذه الاستراتيجية، التي جُدّدت حتى عام 2030 ضمن رؤية وحدة تنفيذ السدود، وبدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لا تقتصر على إنشاء السدود الصغيرة والحفائر والآبار، بل تمثل رؤية وطنية لتحقيق الاستدامة، في الريف .
غير أن الواقع يكشف عن فجوة كبيرة بين ما هو مخطّط له “7500 مشروع” وما هو منفّذ فعليًا “380 مشروعًا”. بحسب منشورات وحدة السدود . إذ تعرقل الحرب والتقلبات السياسية التمويل، وتعطّل البنية التحتية، وتزيد من هشاشة المجتمعات الريفية، التي باتت مهددة بمخاطر الجفاف والفيضانات. ويُعد الأطفال، والنساء، والمزارعون الفئات الأكثر تضررًا، بما قد يؤدي إلى النزوح، وانهيار سبل العيش، وارتفاع معدلات الأمراض، مما يُهدد النسيج الاجتماعي .
في ظل هذا الوضع، تتحمّل الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني مسؤولية مضاعفة في توفير شبكات أمان اجتماعية فعالة، تتضمن حملات التوعية، والإجلاء الوقائي، وتجهيز مراكز الإيواء المؤقت ، ودعم جهود إعادة التأهيل، بهدف الحدّ من الأثر الإنساني والاقتصادي للكوارث المناخية.
وفي هذا الإطار، بحث وزير المالية د. جبريل إبراهيم مؤخرًا مع مدير المنظمة العربية للتنمية الزراعية، البروفيسور إبراهيم الدخيري، سبل تفعيل التمويل الخارجي لدعم مشروعات حصاد المياه، والاستفادة من التجارب الإقليمية والدولية الناجحة. وأكّد الطرفان أن تأمين مياه الشرب والري يُمثّل مدخلًا أساسيًا لتحسين الإنتاج الزراعي، و للحدّ من النزاعات القبلية وتعزيز فرص السلام المجتمعي، مما يجعل قضية المياه ذات أبعاد أمنية واستراتيجية تتجاوز كونها خدمة أساسية.
الفيضانات المتوقعة تُشكّل أيضًا تهديدًا مباشرًا للبنية الاقتصادية الوطنية، عبر الأضرار المحتملة التي قد تطال الزراعة، والثروة الحيوانية، والبنية التحتية من طرق ، بما يعيق حركة التجارة، ويرفع تكلفة التعافي الاقتصادي، بما يضاعف العبء المالي واللوجستي، الذي يجعل المجتمعات الريفية مكشوفة أمام الكوارث.
في المقابل، نقلت “وكالة السودان للأنباء” عن حكومة “الأمل” برئاسة د. كامل إدريس، رسائل تفاؤل بإعادة تنشيط خطة “صفرية العطش”، وتنمية الريف، وتوسيع الشراكات مع المجتمع المدني والجهات المانحة، بما ينسجم مع أهداف التنمية المستدامة التي تضع المياه في صدارة أولوياتها.
لكن التحديات الأمنية لا تزال قائمة، خصوصًا في دارفور وكردفان، حيث يستمر القتال بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع. وبناءً على هذا الواقع المعقّد، تبرز الحاجة الماسة إلى إنشاء “وحدة طوارئ مركزية متخصصة” تعمل تحت إشراف الجهة المختصة، وتنسّق مع حكومات الولايات والأجهزة الأمنية. تكون مهمتها رصد المخاطر المناخية، إدارة الاستجابة السريعة، وضمان صيانة مشروعات المياه، ضمن خطة وطنية متكاملة تعزز قدرة الدولة على التكيّف مع تحديات الحرب والمناخ.
كما يُعد إشراك المجتمعات المحلية في صيانة هذه المشروعات ومراقبتها عنصرًا أساسيًا في تعزيز الاستدامة وتقليل النزاعات. أما التعاون الإقليمي والدولي، فيظل مطلوبا لمواجهة التأثيرات العابرة للحدود، والحصول على تمويل ، وخبرات تقنية تُعين السودان على التكيّف مع المتغيرات المناخية.
هذا وبحسب #وجه_الحقيقة فإن خريف 2025 يمثّل فرصة لاختبار قدرة السودان على دمج الاستجابات المناخية والاقتصادية والاجتماعية في إطار رؤية وطنية شاملة، تستند إلى الاستقرار السياسي والتنسيق المؤسسي، وتحوّل التحديات المناخية إلى فرص تنموية تحفظ أمن البلاد ومستقبل أجيالها القادمة.
دمتم بخير وعافية.
الأحد 27 يوليو 2025م Shglawi55@gmail.com