وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
متابعات الخبــــر الســــــوداني
بالأمس انتشر مقطع فيديو قصير انتشار النار في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي احتفي به الناس وسط دموع العظمة والكبرياء ، بدأ ذلك الإيمان متجسدًا في هيئة الشاب السوداني ” طلال الركابي” الذي فقد إحدى ساقيه في ساحة القتال في “معركة الخوى” ، عاد في ثبات الابطال مرفوع الرأس، مُشرق الوجه، يحتضنه اخوانه ويهتفون معه في مشهد تجاوز الحرب إلى بُعدٍ إنساني وسياسي بالغ الأهمية و الدلالات .
لقد ظهر طلال معبرا عن جيل بأكمله عرف كيف تعلي القيم ويصان التراب، وكأن في بتر ساقه استعادة للكرامة و للسيادة الوطنية التين كانتا علي المحك.
كما نعلم في لحظات التحدي ، حين تهتز أركان الدولة، وتكاد الهوية ان تُطمس ، يبرز على السطح معدن الرجال الحقيقيين.. وفي السودان، حيث واجهت البلاد أخطر تهديد وجودي في تاريخها الحديث، لم تأتِ النجدة من غرف السياسة ولا من موائد التفاوض ولا من ساحة الاعتصام، بل من أعماق المجتمع، من قاعات الدرس ومواقع العمل، من بين الأطباء والمهندسين والمعلمين وموظفي القطاعين العام والخاص، الذين اختاروا أن يكونوا خط الدفاع المنتظر حين استُدعوا، دون تردد او خذلان.
لقد لبّى هؤلاء الشباب نداء الوطن حين دعا قائد الجيش السوداني كل القادرين على حمل السلاح للدفاع عن البلاد. ولم يكن هذا النداء استنفارًا عاديًا، بل كان لحظة فارقة اختبرت مدى تماسك الوعي الوطني في مجتمع أنهكته الانقسامات واوجعته المؤامرة.
فكان الرد على قدر التحدي، وخرج الآلاف الشباب من غير تردد، حاملين في قلوبهم إيمانًا متجدد بأن الأوطان تُحمى ببذل الأنفس في سبيل الكرامة ، وبأن السودان ليس جغرافيا يُدافع عنها، بل فكرة وانتماء.
هذه الصورة الملهمة كانت جزءًا من ظاهرة آخذة في التشكل، حيث باتت المدن والشوارع تزدحم بشباب أخذت منهم الحرب ما أخذت ، لكنهم ظلوا مكتملين الرجولة والاباء ، والعزة، والانتماء، وكأن هذه التضحية أعادت صياغة معادلة المواطنة والوطن من جديد.
هذا التحول الشعبي تعبير عن ولادة سردية جديدة في الحياة السياسية السودانية، سردية لا تصنعها المؤتمرات ولا تحيكها التحالفات، بل تفرضها تضحيات من أعادوا للوطن معناه. هؤلاء لم يدخلوا الحرب لأجل سلطة، بل لأنهم أيقنوا أن خسارة الحرب تعني نهاية الوطن ، وأن الدفاع عن المؤسسات، أولى من ترك البلاد تختطفها المليشيات. لقد أجبروا الجميع، حتى النخب، على إعادة تعريف معنى الدولة التي يجب الدفاع عنها.
لكن الاعتراف بقيمة هذه التضحيات لا يكتمل بالتصفيق العاطفي أو الهتاف.. فالوفاء الحقيقي يتجسد حين تترجم الدولة هذه التضحيات إلى سياسات. يجب أن يُعامل هؤلاء بوفاء وصدق ، لأنهم منحوا السودان عمرًا جديدًا.
هنا، تصبح مسؤولية الدولة لا تحتمل التأجيل: تأمين الرعاية الطبية المتخصصة، والدعم النفسي والاجتماعي، وضمان حياة كريمة لأسر الشهداء والمصابين، وتوظيف طاقاتهم في مشاريع البناء الوطني. لا بد أن يُدرج هذا الجهد ضمن استراتيجية “حكومة الأمل” لأن هؤلاء هم من استعادوا الامل، من قاتل بدمه لا يجب أن يقاتل بعد ذلك من أجل حقوقه.
ومع هذه المسؤولية المؤسسية، يتعين على المجتمع أن ينهض بدوره، من باب الاعتراف بقيمة هؤلاء الأبطال. فهؤلاء هم من كتبوا بدمهم ما يجب أن يُقرأ في كتب المدارس، وهم من يستحقون أن تُبنى الطرقات والمراكز بأسمائهم، وأن تُروى قصصهم في الإعلام، كدروس وطنية حقيقية. إن تخليدهم هو جزء من معركة الوعي، فلا يمكن أن تبني وطنًا دون أن تحفظ ذاكرته، ولا يمكن أن توحّد أمة دون قادتها الفدائيين .
ان لم تُبنَ الدولة القادمة على هذه الأرضية الأخلاقية، فستكون التضحيات قد ذهبت هدرًا. وإن لم يتحول هذا الوعي الشعبي إلى عقد سياسي واجتماعي شامل، يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمواطن على قاعدة الفداء لا المغانم ، فإننا ربما نعيد إنتاج الحرب بأشكال أكثر قسوة.
كما يجب أن نعلم بحسب وجه_الحقيقة أن السلاح حين يكون في يد الشرفاء المنتبهين يصبح أداة حماية، لا آلة قمع. لذلك فإن تخليدهم يكون بإعادة تعريف “المواطنة السودانية” على أساس هذه القيم : الأخلاق التضحية، الإيثار، وحب الوطن الذي يحرسه الوعي والأمن والسلام.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 20 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com