الخبر السوداني

الغالي الزين..المعلم الجليل ، الفنان الكبير ، الدكتور الخبير ، الموسيقي الجدير ..

رصد – الخبر السوداني

الأستاذ عبد القادر سالم ..
عندما نعاك الناعي و ناحتك النائحة ليس استعجالاً لموتك ، بل استدراكاً لوجودك في القلوب و استدعاءً للذاكرة من الهروب …
جاء نعيك و (أنا) كنت من الناعين و انت على قيد الحياة ليحيي دروب مسيرتك في العلم و الفن . و يستدعي أعمالك الفنية التي نالتها أيادي العبث و التخريب من تتار العصر التي جاست كل دور التوثيق و المتاحف ، و دور اتحاد الفنانين ، و معاهد الموسيقى و المصنفات الادبية التي كنت أنت على سدتها . و لم تترك لحناً إلا أسكتته ، و لا حرفاً إلا مسحته ، و لا مخطوطاً إلا و احرقته . و لعل هذا من أسباب العلة التي ألمت بك . و أراد الله أن تتبارى الأقلام و تتوالى الردود محملةً بأعمالك المحفورة في العقول ، و المحفوظة في الصدور لتقول لك :
( أبشِر ) فزعك لحق … و هذه أعمالك بين يديك علها تخفف من ألمك و تداوي سقمك …
قال بعضهم : ” الله ما جاب يوم شكرك ” تعبيراً عن خوفهم مفارقتك الحياة ، و هذه عبارة يرددها السودانيون و كأن من عادتهم أنهم (يؤجلون) الشكر إلى ما بعد الممات ! وقد كتبت مقالاً عن هذه العبارة من قبل لا يسع المجال لتكراره …
و أنا أقول لك ” الله يجيب يوم شكرك ” و جاب يوم شكرك …
و ها هو قد جاء إقراراً بحسن صنيعك و تأصيلاً للحديث ” من لا يشكر الناس لا يشكر الله ” …
و مثلما يمتدح البدر بالحسن في سمائه ، كذلك الإنسان يحفز في عمله بأدائه …
و نحن اليوم نحفزك في أدائك ….
من مقولاتنا السائرة ” من شكَّرك قدَّامك شتمك ” . و لا أدري كيف يتوافق ذلك مع العقل ! …
أنا أقول ” من شكَّرك قدَّامك قدَّرك ” . تماماً كتبسمك في وجه أخيك ( صدقة ) . و هل قيل تبسمك بعد موت أخيك صدقة ؟؟ …
لذا قلت الله يجيب يوم شكرك لأتصدق بتبسُّمٍ في و جهك بهذه العبارات المتواضعات …
أقول الله يجيب يوم شكرك لأشكرك تحفيزاً لك ، و تقديراً لك . لأن ليست لي ميدالية لأضعها على صدرك ، و لا درعاً يليق بقدرك ، ولا وشاحاً أزيِّن به كتفك غير هذه الكلمات القليلات في حقك …
عرفتك فنان منذ صغري على أثير الإذاعة عندما كنا نتحلق حول راديو التاجر الوحيد بالقرية …
و معلماً عندما خلفتك على مدارس الصداقة السودانية بالخارج (١٩٩٤م) بالعراق ثم ليبيا إذ كنت أنت قبلها بالمدرسة السودانية بأنجمينا ، و كان بيني و بينك عشرون عاماً ، لكني ما كتبت مقالاً عن مدارس الصداقة بالخارج و إلا وكنت أنت متصدراً قادتها و ممسكاً بريادتها …
عرفتك إنسان عندما دعوناك و كوكبة من فناني كردفان سنة (١٩٨٢م) لإحياء يوم كردفان بمعهد المعلمين الأوسط بأم درمان …
و كان حضورك و الكروان محمود تاور عطر المكان ، و إلتئامكم و الموسيقار الأستاذ يوسف القديل عليه الرحمة من سوانح الزمان ونظمتم عقد كردفان …
يوم جئتنا مقتولاً بهوى ( كردفان ) و من لم يمت منا لم يسعه المكان …
و كأن الكلام الذي به عسلٌ
قتلنا ثم لم تحيي موتانا !! ….
أليست هذه سانحة تستحق الشكر في مقامك ؟؟ …
مرة أخرى لقيتك منتصف التسعينات في مهرجان بابل الدولي في بغداد و قد كنت أيقونة وفد السودان ….
فاهتز لك مسرح الرشيد و بادله مسرح ( بغدان ) و رقصا معك لكردفان !…
و رقصت معك حدائق بابل (المعلقة) على مر الأزمان !! ….
فيدور بنا الزمان لنلتقي عند فاشر السلطان …
أتذكر تلك الدورة المدرسية التي عبرت عن أصالة المكان . و استنشقت منه عبير الأزمان ؟ …
أتذكر عندما صعدت على خشبة مسرح ( النقعة ) و ترنمت ب( أسير غزال ) و كان كل المسرح (كورال) ؟ …
أتذكر حين تمايل معك (سنط) النقعة و اهتز لك ( حجر قدو ) وكبَّر مسجد السلطان ؟ …
أتذكر انك جئت لمقر اللجنة الثقافية بمدرسة الفاشر الثانوية تبحث عن شبيه لك لعله انتحل شخصيتك في مقابلة مع تلفزيون الشروق في برنامج ضيف الصباح و كنت انا ذلك الشبيه المنتحل جسماً لا شخصاً ؟ …
يالها من أيام و يا لك من إنسان !! …
أتذكر حين ساقتنا ذات الدورة المدرسية إلى مقتل هواك و مسقط رأسك كردفان ؟ …
ما أجملها ليلةٍ قضاها الناس معك على مسرح عروس الرمال ! …
يومها صعدت ( القويز ) و رقصت ( الهسيس ) وعانقت غزالك الأسير ، و من أهلك الصغير و الكبير …
عانقت الصحب و الحبان من فرقة فنون كردفان …
و دار بك الزمان و ( دقيت ) المردوم فرحاً . وكدت أن تطير ، و تحشرج حلقك من ( الكرير ) ….
أتذكر لما قلت ( ليمون بارا ) و ضربت على الوتر و شلنا معاك ( الجلالة ) ؟ و غنيت ( حلوة يا بسامة ) و حميت الناس ( منامها ) ؟ …
تلك أيام مجدك و عزك بها نفخر …و اليوم يوم (شكرك) وبه نجأر ، و مازلت فوق عزك قبايل ما بتهزك ….
هذا هو عبد القادر سالم الذي طار بأجنحة ( الباءات) و أطرب العالم فتجاوز المحلية من (بارا) إلى العالمية شرقاً في ( بابل ) و غرباً ( باريس ) و (برلين) و جنوبه و شماله (بحلوة يا بسامة ) و لم يثنه المرض عن الخوض في معركة الكرامة ! …
فمن كان بالأمس له ناعياً أضحى اليوم له داعياً ” …
فاللهم اشفه و عافه ، و سكن ألمه و أبريء سقمه ، و البسه ثوب العافية ” ….
و أبشششششر بالعافية …

الأستاذ/
الغالي الزين حمدون …
٢٠٢٤/١١/٢٨ م

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.