كتب / الغالي الزين حمدون
الحروب سنة تدافعية في حياة البشر ( و لَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهَم بِبَعْض لَهُدِّمَت صَوَامِعُ و بِيَّعُ و مَسَاجدُ يُذْكَرُ فِيْها اسْمُ اللهِ كَثِيْرا ) صدق الله العظيم ….
لكن لكل حرب مسببات و أهداف قد تنتهي في ساعة أو يوم ، أو تطول لشهور و أعوام كل حسب الهدف المنشود أو الغاية التي قامت من أجلها الحرب ….
فهناك حروب دينية كالحروب الصليبية و الإسلام ، و أخرى سياسية كما تحدث بين دولة و أخرى أو كيانات سياسية داخل الدولة ، و عرقية تطهيرية في عصور سابقة و حديثاً بين التوتثو و الهوتو في رواندا و في صربيا و المساليت في الجنينة بولاية غرب دارفور من قبل مليشيا الدعم السريع …..
كل هذه قد تكون قصيرة الأجل و تنتهي بغلبة أو معاهدات و مواثيق بضمانات محلية او اقليمية أو أممية جادة و بعيدة عن التحيز …..
أما القبيلية موضوع حديثي فهي ضاربة الجذور في المجتمعات منذ القدم و قد يطول أمدها بين القبائل لأنها تنشأ من أجل الثأر . و معروف أن الثأر دوامة لا تتوقف لأنه مشحون بالغبن و الغلو في (الأخذ) مما يساعد في استمرارية الحرب فيطول أمدها لعقود كما كان يحدث في حروب الجاهلية ، و التي كانت لها أيام سميت بأيام ( العرب ) . و هي أيام تعين قبل الحرب و يعلن عنها للاستعداد للحرب و الإلتقاء فيها ( العين تشوف العين ) و كانوا يعيبون أسلوب الغدر و المباغتة لأنهم يعتقدون أنه ليس من المروءة و الرجولة و الشجاعة ….
الحروب القبيلية في الجاهلية كانت تقوم لأتفه الأسباب . و أطول حروب الجاهلية كانت بسبب (ناقة) كحرب (البسوس) التي استمرت أربعين عاماً بين قبيلة تغلب بن وائل و حلفاؤها ضد بني شيبان و حلفائهم من قبيلة بكر بن وائل بسببها . وحرب داحس و الغبراء هما ( فرسان ) قامت بسببهما حرب بين عبس و ذبيان و هما بطنان من قبيلة غطفان استمرت ثمانية أعوام . و غيرهما من الحروب الطويلة التي خاضها العرب في الجاهلية كحرب الفجار و بعاث ….
استمرت هذه الحروب لسنين طويلة قضت على الحرث و انقطع خلالها النسل و كل ذلك سببه المطالبات بالثأر . حتى جاء الإسلام و تنزَّل القرآن و الشرائع فنظَّم المجتمعات و نهى عن قتل النفس و حرَّمه إلا بالحق . فأنشأ دولة الشريعة والقانون و شرع القصاص أن النفس بالنفس ، و العين بالعين ، و السن بالسن ، و كفل رد الحقوق لأصحابها من دون إراقة دماء ، و دون أن تزر وازرة وزر أخرى . فحجبت به الدماء و انتظم التعايش بين المجتمعات و التصالح بين القبائل ، و عاش الناس شعوباً و قبائل لا يفرقهم إلا التقوى …..
إذن ما دمنا نؤمن بأن الإسلام دين حق و تعايش و تصالح و قيِّم و فضائل و ندعي أننا مسلمون ، فلماذا لا نسلك طريقه و نهتدي بهديه لرد الحقوق ؟؟ …..
هذا السؤال أعني به كل مسلم و كل قبيلة و عشيرة و كل مجتمع ينشد العزة و الفضيلة في الإسلام و قد (أعزنا الله بالإسلام ) و أخص أهلي قبيلة الجوامعة و قبيلة الشنابلة الذين عاشوا قرابة القرن من الزمان أو أكثر ، مسكنهم واحد ، و مرتعهم واحد ، و مشربهم واحد ، و حلهم و ترحالهم واحد … كانت تحكمهم أخلاق الإسلام ( الناس شركاء في النار و الماء و الكلأ ) و واجب الجيرة ( و اذا استجارك فأجره ) و المصاهرة محققين بذلك قول الله ( يَأيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكٍر و أُنْثَى و جَعَلْنَاكُم شُعُوبَاً و قَبَائِل لِتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم ) فتحققت لهم سبل العيش و الأمن و الأمان و لم يعرف بينهم ثأر أو قتال إلا من مشاجرات بين هذا وذاك لم ترتقي لمستوى الحرابة……
دار الجوامعة معروفة بحدودها منذ القدم و كانت حكراً لهم ، لكنهم لم يبخلوا على من جاءهم مهاجراً لعيش ، أو مرعى ، أو زرع . فآثروا على أنفسهم و لو كانت بهم خصاصة ، و فتحوا قلوبهم له و تقاسموا معه الأرض و الدار . و لما رأوا أن اسم (دار الجوامعة ) ضيقة لا تسع ضيوفهم سعوا لتوسعتها فأسموها (دار عموم الجوامعة) لتسع كافة المكونات التي تعيش معهم بمختلف قبائلهم ، حتى أصبح منهم من يسمونهم (أهل الدار) كأنهم بذلك يقولون ( يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف و انت رب المنزل ) و حقاً كانوا كذلك …..
و ما أن أتت الحرب اللعينة على السودان تتزعمها مليشيا الدعم السريع و مناصريها متسترة تحت ثياب الديمقراطية و بسط الأمن و الحرية حتى رمت بكل السودان في أتونها . و سرعان ما تكشفت نواياها العنصرية و الإقصائية فقتلت المواطنين في دارفور على الهوية و أبادت المساليت على العرقية ثم عكفت على نشر خطاب الكراهية بين أبناء السودان لجرهم إلى الحروب القبلية و عممت الحرب في كل أنحاء السودان زهقاً للأرواح و قتلاً للأنفس و إراقةً لدماء الأبرياء من الرجال و الأطفال و النساء و عاثت كالنار في الهشيم سلباً و نهباً و اغتصاباً و استنفرت ضعاف النفوس و عُمي البصيرة و بائعي الذمم ممن رضعوا من ثدي الجهالة و الأمية ، فانخرطوا في صفوفها ظناً منهم أنها تحسن صنعا . فأوردوا أهلهم و قبائلهم و عشائرهم و أسرهم و البلد بأسرها موارد الهلاك ….
و الذي يحدث في دار الجوامعة من المتفلتين من القبائل الأخرى في وسطهم هو جزء من مخطط هذه المليشيا المأجورة لجر المنطقة لحرب قبلية لا يحمد عقباها . في اعتقادي أن انضمام هؤلاء المتفلتين للمليشيا لا يعبر عن إرادة قبائلهم و عشائرهم و لا حتى أسرهم بل هو الطيش و الجهل و الضلال ( و مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ) ….
لذلك أنا أدعوا آبائي و إخوتي و أبنائي في قبيلة الجوامعة و هم (يعنونني) أن ينظروا إلى ما يحدث من هؤلاء المتفلتين بمنظار الوعي و تحكيم العقل وهم ( أهل حكمة ) و ألا يرفضوا نداءات الصلح اذا بدت ( و إنْ جَنَحَتْ للسِلْمِ فاجْنَح لَهَا ) ….
صحيح نحن كقبيلة فجعنا في أهل أعزاء من قرى ابوحمرة و ام حميرة و الفرجاب و الغبشة و ما حولها من قرى و قرى دار عموم الجوامعة و عزاؤنا أن ما أصابنا قد أصاب أهل السودان و لن يضيع حق وراءه مطالب . لكن الوقت يحتاج منا للتريث لا سيما أن المنطقة قد تعافت لتوها من أثر المليشيا و ما زالت تعاني آثار الخراب و الدمار الذي خلفته فلنؤجل قضايانا الداخلية حتى لا يظن العدو فينا ضعفاً و يعيد الكرة لديارنا ….
الفقد كبير و الجرح غائر و علاجه يحتاج لوقت فدعونا نتأسى بقول الله تعالى لحبيبه محمد عندما أصابته الهزيمة و الهَمْ ( إنْ يَمْسَسْكُم قَرْحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرْحٌ مِثْلَكُم و تِلْك الأيَّام نُدَاوِلَها بَيْنَ النَّاسِ و لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذ مِنْكُم شُهَداء و اللهُ لا يُحِبّ الظَّالِمِين ) ….
و أدعوا الأمراء و أصحاب الحكمة و العقول من قبيلة الشنابلة و ( ما أكثرهم ) أن يسعوا لكبح جماح أولئك المتفلتين و إخضاعهم لعرف القبيلة و يضعوا السلاح توطئةً للصلح و رد الحقوق إلى أهلها ….. كما أدعوا نظار و أمراء قبائل ولاية شمال كردفان أهل الحل و العقد الذين نشهد لهم و يشهد لهم غيرنا بأنهم الأجدر و الأقدر على حلحلة المشاكل و إطفاء الفتن بما فيهم ناظر الشنابلة أن يغتنموا فضيلة هذا الشهر عسى الله يجعل فيه خيراً للسودان كله ….
أنا أجد العذر للذين ينادون بالثأر لذويهم لأن هذه غريزة جعلها الله في البشر لكنه وضع لها ما يلجمها و يكبح جماحها و هو الصبر و التأسي و الامتثال لأمر الله و الاقتداء بسنة نبيه و العمل بها ….
لكني أرى أن الإحتقان و التعبئة المتسارعة بين شباب القبيلتين سيورد منطقة دار عموم الجوامعة مورد الهلاك ولن ينجو منها أحد . و اذا كان هناك من يرى من الجانبين أنه سيأخذ حقه بالقوة و سيقصي الآخر أو ينفيه من الأرض ، فذاك يحتاج لضعف سني البسوس و داحس و الغبراء و الفجار و بعاث .
فانظر كم سيهلك من الحرث و النسل !! ….
و لكم فيمن كان قبلكم عبرة و اعتبروا يا أولي الألباب و ما دارفور ببعيدة !…..
الغالي الزين حمدون
٢٠٢٥/٢/٥م .