كتب / الغالي الزين حمدون
متابعات الخبــــر الســــــوداني
كتبت مقالاً قبل أسبوع بعنوان ( و لكم فيمن كان قبلكم عبرة ) أشرت فيه لتاريخ الحروب القبيلة و أضرارها على الحرث و النسل . كما أشرت إلى خطورة الأخذ بالثأر بعيداً عن طاولة القانون لأن من شأنه إطالة أمد الحرب و زيادة الفقد في الأرواح من الجانبين المتخاصمين ……
و أن هذه الحروب لن يكبحها إلا العهود و المواثيق المضمونة من جهات لها تأثير يضمن عدم خرقها و محاسبة المتعدي . و قد تكون تلك الجهات الضامنة أممية أو إقليمية أو محلية أو مجتمعية حسب حجم الخلاف و المشكلة ……
و بالتأكيد أن الخلاف بين قبيلتين لا يحتاج لمجالس أممية أو إقليمية بل هو مسؤولية محلية و مجتمعية و قانونية تراعي أعراف و مصلحة الطرفين و منطقة النزاع في وقف الإقتتال …..
كما أن من عيوب الترقُّب و الترصُّد بين المتخاصمين قابل للانفجار في أي وقت ليشد أطراف المنطقة ويزيد من التوترات الأمنية ، فيتسبب في الإنفلات الأمني و يثير الفوضى و ينفرط الأمن فيصبح العنف سيد الموقف …..
و الحروب عادةً لا تنتهي إلا (بصلح) يضمن الحقوق و يرد المظالم . أو (بغلبة) تقطع دابر الخصم أي ( إبادة) و اجتثاث من الأرض …..
و مسألة الإبادة و الاجتثاث هذه لا تتوفر إلا لسلطة تملك من القوة و الآلة ما يمكنها من تنفيذه من دون رقيب أو حسيب و هذا لا يتوفر إلا لسلطان قاهر….
أما في إطار المجتمعات و القبائل لا يمكن حل مشكلاتها خارج نطاق القانون و القصاص أو الصلح و رد المظالم بعرف المجتمعات و ( في كل خير ) ……
المشكلة بين قبيلتي الشنابلة و الجوامعة مشكلة (مجتمعية) فرضتها ظروف الحرب و الانفلات الأمني في السودان عامة و التي أدت إلى خلخلة النسيج الاجتماعي فيه بين كافة مكوناته و أسره و مجتمعاته ، فخلق مشاكل مجتمعية و فجوات عنصرية عميقة لا يمكن حلها إلا في إطار القانون أو التصالح و كلاهما (متاحان) للوصول لحل ينهي النزاع و يجنب المنطقة التوترات ….
فإذا أرادت القبيلتان اللجوء للقانون و التقاضي فهو أمر لا غبار عليه و حق مشروع لكنه لا يتوفر الآن بسبب غياب سلطة القانون …. أنا أعتقد أن فرص الصلح متوفرة و متاحة الآن ، لأنه يقوم بوجود وسطاء محايدين من قيادات المجتمعات و القبائل الأخرى وهم موجودون . و ينبني على رضا الطرفين المتخاصمين و هما موجودان و بالتالي يمكن الوصول لحل كاملاً أو جزئياً …..
لذلك كان تحرك حلف شمال كردفان نحو الصلح بين القبيلتين في وجود ممثلين من مكوناتهما و إداراتهما هو الخيار الأوحد في هذه المرحلة أقلها يعمل على :
١/ وقف العدائيات بين الجانبين .
٢/ إيقاف التصعيد الميداني و الإعلامي و خطاب الكراهية .
٣/ اخذ الحقوق بالقانون عبر الأجهزة القانونية .
٤/ تخفيف حدة التوتر و الاستقطاب بين القبيلتين .
٥/ هدنة تضمن عدم الاعتداءات من الجانبين لحين قيام و اكتمال أعمدة القانون في البلد .
٦/ حقن الدماء .
و بالطبع هذه السمات العامة التي حملها الاتفاق …..
بلا شك أن مكون حلف قبائل شمال كردفان عندما شد رحاله إلى مدينة الرهد (حاضرة و مقر) نظارة عموم الجوامعة معرجاً إلى (مركز و مقر) قبيلة الشنابلة لا ينقصه الرأي و الحنكة و حسن التصرف و الحرص على توفير الحد الأدنى من التوافق الذي يضمن وقف العدائيات في الوقت الراهن ، و تأجيل التقاضي و القضايا الكبرى لما بعد قيام المؤسسات العدلية …..
في رأيي أن الخطوة كانت إيجابية برغم تحفظات البعض و رفض الآخرين لأسباب تتعلق بغياب ناظر عموم الجوامعة و وكيله ( بالأصالة ) ! و طعنهم في شرعية وكالة و توقيع العمدة عيسى كبر على الاتفاق…… و في هذه الحالة يجب على المعارضين ألا ينظروا لهذا الاتفاق من زاوية اختلافهم مع العمدة كبر أو عدم شرعيته في الحال بل يجب أن ينظروا لما سيحققه من أمن و استقرار و لو جزئي حتى تنفرج الأمور وقتها يكون الطعن ممكناً في أهلية العمدة او غيرها بالوسائل المتعارف عليها ….
أنا أحترم رأيهم في الإعتراض على الإتفاق الذي تم توقيعه بين الشنابلة و الجوامعة في عدم وجود ناظر عموم الجوامعة و وكيله ( شقيقه ) الذي غادر دار النظارة و مركزها مع مليشيا التمرد بعد دخول الجيش لمدينة الرهد حسب المعلومة التي اوردتها وسائل التواصل و قروبات الجوامعة …..
فإذا هم أقروا بأن الناظر غائب الغيبة ( الكبرى ) و وكيله في غيبته ( الصغرى ) و هما ينتظران العودة بعد استباب الأمن في ديارهم فيرجعا ليملآن الديار ( عدلاً ) بعد أن ملئت (جوراً ) و فجوراً ) فما البديل في حالة استمراء الإمامين للغيبة و الصمت ؟ وكأنهما بصمتهما (يباركان) ما يحدث في الديار من قتل ونهب و تشريد . و لم يبديا استهجاناً أو حتى يخرج أحدهما ببيان يتضامن فيه مع رعاياه من مجتمع القبيلة ، و يدين ما يحدث لهم في المنطقة من تشريد و قتل و نهب و سلب يومي ….
فهل يعقل أن يصبر الناس على الأذى و القتل و التشريد حتى ظهور الناظر و وكيله ؟….
ألا يحق للناس إدارة شؤونهم و الحفاظ على أرواحهم و أموالهم و أعراضهم في ظل غياب الراعي ؟ …..
يجب علينا النظر إلى الأمر بأننا نعيش واقعاً مختلفاً في ظل غياب التشريعات و القوانين التي تحكم تعيين أو خلافة الإدارات الأهلية ، و ظروف تحول دون انعقاد جمعيات عمومية تحقق الإجماع او التوافق على تتويج ناظر أو وكيل . علماً أن تعيين الإدارات الأهلية لا يتوقف على قواعدها و حواضنها المجتمعية فحسب ، إنما هناك قوانين و نظم و تشريعات تصاحب هذا التوافق المجتمعي لا تتوفر في الوقت الراهن ……
إذن يمكن القول أن العمدة عيسى كبر هو رجل مرحلة فرضه الواقع لسد ( ثغرة ) قد تؤتى من قِبلِها القبيلة أو المنطقة عامة ، و ربما سخره الله (ليحجب) به دماء الناس …..
العمدة كبر أنا لا أعرفه عن قرب و لم ألتقيه من قبل لكن سيرته و مواقفه جعلتني أحترمه و كان آخرها مواجهته لمليشيا الدعم السريع في محاولتهم اختطاف فتاتين من أحد البصات كان هو أحد ركابه ، فواجه المختطفين بكل شجاعة و هو أعزل من السلاح بأنه لا يمكنه تركهما لهم و هو ( عمدة ) البلد حتى و إن لم تكونا من رعيته لكنهما في أرضه !! ….
واستطاع بهذا الموقف الشجاع تخليص الفتاتين لكنه دفع ثمن هذا الموقف بتهجيره قسراً و تجريده من سلاحه الخاص و نهب داره . هذا فضلاً عن كلمته القوية التي قالها لوفد التحالف بأنه لن يتهاون في إذلال أهله ، و لن يقبل الصلح مع من حمل السلاح في وجههم و شردهم و قتلهم و نهب ممتلكاتهم إلا إذا تحقق مطلبهم باسترداد حقوقهم ورد مظالمهم كاملة…..
أنا هنا لست بصدد تعداد مآثر العمدة و مجاهداته قد يعلم البعض عنه أكثر مني لأني لم أعش معه في نفس الرقعة الجغرافية لكن أردت القول و هذا ( رأيي ) أنه بهذه المواصفات يصلح لأن يكون رجل مرحلة معززاً قولي بالمسببات الآتية :
- أنه أقدم رجل إدارة أهلية في المنطقة .
- تربى في مركز نظارة عموم الجوامعة .
- سليل إدارة أهلية معروفة .
- قربه من مركز الإدارة و مخالطته لرؤسائها ( النظار ) يكسبه معرفة أكثر من غيره بشئون القبيلة.
- ربما يمتلك بعض الوثائق و المستندات التي تمكنه من المحاججة و المنافحة عن القبيلة .
- كل ما مضى يجعله في التسلسل الإداري لسد الفراغ في حالة غياب الناظر أو وكيله لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ !!
إذن هو ليس دفاعاً عن كبر أو تلميعاً له و هو لا يحتاج مني ذلك ، لأن معرفتي به ضعيفة لكن الحق أن ما قام به الرجل من اتفاق مع قبيلة الشنابلة لم يكن بمفرده إنما معه قيادات من كيانات القبيلة ضمن هذ التحالف و أفراد تهمهم مصلحة القبيلة انضموا للوفد لقربهم من موقع الحدث ، و تحت رعاية والي الولاية و حكومتها مما أضفى على هذا الأتفاق الصبغة القانونية في الوقت الذي لم يصدر أي اعتراض عليه من الناظر أو وكيله ….
اذا قرأنا الاتفاق جيداً فهو لم يضعف القبيلة ، و لم يتنازل عن حقوقها كقبيلة أو حقوق أفرادها ، إنما جاء فيه ضمان جميع الحقوق ( الخاصة و العامة ) بالوسائل القانونية عبر فتح البلاغات . و أتاح مزيداً من الوقت للتقصي و جمع البيانات و الأدلة و فتح البلاغات و تقدير الخسائر المادية و البشرية ، و توفير الشهود و تسليم المجرمين من الطرفين ، و تأجيل التقاضي لما بعد الحرب و استقرار الأوضاع و اكتمال المؤسسات العدلية …… فما الذي يجعل البعض يتخوف من هكذا إتفاق بضمانات ولائية و محلية و شهدته قيادات و أعيان و عُمد و كيانات لأكثر من مئة قبيلة و فرع و مكون بالولاية …
هذا كاف لأن يجعل منه اتفاق تاريخي يحتذى به في فض النزاعات ….
و الأجدر بنا الإشادة به و تأييده و التمسك به على الأقل أنه سيحفظ حقوق أهلنا للمطالبة بها متى ما استقرت الأوضاع و انتظمت الدوائر القانونية ….
و في نفس الوقت وجب علينا تقديم الشكر لأعضاء حلف شمال كردفان و الوالي و حكومته و إخوتنا من أبناء و مكونات قبيلة الجوامعة من عمد و اتحادات و تنسيقيات الذين شهدوا التوقيع على الإتفاق ….
ختاماً أقول بأني أحترم كل الآراء مع نصيحتي بتأجيل النقاش في أمور النظارة إلى ما بعد وقوف الحرب و رجوع الناظر و وكيله للدار ….
آخراً لا يمكن القضاء مع إسالة الدماء…..
فالأولى حجب الدماء ثم اللجوء للقضاء ….
ولكم في القصاص حياة …
و الصلح خير …….
و الله المستعان ….
الغالي الزين حمدون
٢٠٢٥/٣/١٢م