الخبر السوداني

جون قرنق.. أقدار الجبال!

كتب / ضياء الدين بلال

متابعات الخبــــر الســــــوداني

الزمان: أكتوبر 2003
المكان: “سمبالودج”، ضاحية نيفاشا، كينيا

كانت المفاوضات الثنائية بين الدكتور جون قرنق والأستاذ علي عثمان تمرّ بأشد لحظات التعقيد والتوتر، داخل قاعة بسيطة الأثاث.

رمضان كان على الأبواب، وكلما حُزِمت الحقائب استعداداً للمغادرة، جاءت تدخلات الجنرال لازاراس سيمبويو لتمدد زمن التفاوض.

في أحد الأيام، خرج د. قرنق وعلى ملامحه شيء من الغضب وكثير من التوتر… تقدّمت نحوه وسألته:
«هل وصلتم إلى شيء؟»

أجابني، وكان معنا عدد من الصحفيين:
«هناك كثير من السحب والغيوم التي تحجب رؤية قمة الجبل».

كان قرنق كثيراً ما يشبّه مفاوضات نيفاشا بتسلّق الجبال، خاصة في الأيام الأولى من التفاوض.

وعند التوقيع على بروتوكول السلطة، قال قرنق في كلمته:
«الآن تجاوزنا آخر الجبال، وما تبقى أرض منبسطة وسهلة. لكن يجب أن نمشي بحذر وهدوء، دون تسرّع، حتى لا نسقط».

وفي حوار استثنائي أجراه الزميل مصطفى سري مع قرنق بمدينة رمبيك في سبتمبر 2003، سأله:
ما هي هوايتك المفضلة؟

أجاب قرنق: «هوايتي المفضلة تسلّق الجبال»، وأضاف أنه قبل أيام قليلة عاد من جبال الأماتونج، حيث كان يمارس هوايته هناك.

إذن، ثمة رابط قدري بين جون قرنق والجبال. كان الرجل ذا نزوع جامح إلى القمم وأعالي الأشياء، لا يرضى بسفوحها ولا بسواقطها.

في أيامه الأخيرة، كان يتحدث بحماس دفّاق، ظننته نشوة السلطة، لكنه كان قلق النهايات.
عندما يطلّ من العيون ذلك البريق الغامض، وتخرج الكلمات مشحونة بطاقة التفاؤل، يبدو كل شيء ممكناً وقابلاً للتحقق.

الجميع – حتى أعداؤه – كانوا يدركون أنه قائد ذو ملكات نادرة، بقدرة فائقة على صناعة «النكتة» ذات الأوجه المتعددة، وبموهبة استثنائية في صنع المفاجآت. كان مفاجئاً حتى في موته!

جون قرنق دي مبيور، وهو يدخل الخرطوم، أعاد للوجوه دهشتها المفقودة، بعد أن استحال الخطاب السياسي إلى نمطية مملّة ومحفوظات تتبادلها الصحف.
وعندما خرج من الخرطوم، سادت لغة الحريق والموت.

زوجة زميلنا أحمد يونس قالت له، وهي تستمع بـ”أذن دامعة” إلى حديث معاد لقرنق عبر الإذاعة:
«أحداث الشغب ضيّعت علينا الحزن على قرنق».

لم تعد الأشياء كما كانت.
ستعود علامات الاستفهام لتقف أمام كل شيء.
وسيظل البحث جارياً عن نقاط الابتداء، فيما تظل النهايات مفتوحة على الشيء وضده، فقد كان الدكتور جون قرنق يحتفظ في جيبه بالكثير من الإجابات النموذجية لأسئلة المرحلة ومفاجآتها.

أخطأته رصاصات كثيرة، ونجت سياراته من ألغام «معدّة» له.
كان الرجل على موعد دائم مع الجبال، يمارس عليها هوايته في التسلّق، ويتجاوزها بفائض من الصبر وكثير من الدهاء.
وحين قررت الأقدار إنهاء حياته، لم يكن هناك سوى قمة الأماتونج للقيام بهذه المهمة.

من الأرشيف.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.