حديث المدينة | عثمان ميرغني
متابعات الخبــــر الســــــوداني
تخيّل نفسك شرطي مرور في الخرطوم قبل الحرب، مكلفًا من إدارتك بالوقوف مع فريقك في شارع النيل لمراجعة رخص السائقين وتراخيص السيارات العابرة. بدأت عملك الميداني منذ الصباح الباكر، حيث يتدفق العاملون إلى مواقع عملهم. أنت وفريقك تراجعون السيارات والسائقين بهمة ومسؤولية، وتستمرون حتى نهاية اليوم. لكن النتيجة؟ آلاف السيارات مرت، ولم تجدوا سائقًا واحدًا ينقصه ترخيص أو رخصة سارية المفعول. بمعنى آخر: لا مخالفات، لا عقوبات، لا غرامات.
الآن، تخيّل شعورك وأنت تعود إلى رئاستك حاملًا تقريرًا خاليًا من المخالفات، كأنك تحمل “كأس الأخلاق الحميدة”. لكن، هل يرضى رئيسك عن هذا الأداء؟ هل يُنظر إليك كشرطي مخلص ومجتهد لأنك حققت نتيجة “صفر مخالفات”؟ أم أن التقييم يعتمد على مقدار المال الذي تعود به؟ في الواقع، كلما زادت الغرامات، دلّ ذلك على وجود خلل في الشارع، حيث يعكس المال المجموع عدد المخالفين، ويظهر خجل القانون أمام الواقع.
لو عادت كل حواجز التفتيش المروري في شوارع العاصمة المثلثة بنتائج مماثلة – أي بدون غرامات – فربما ينتهي الأمر باستبدال مدير عام شرطة المرور! المفارقة أن غياب المخالفات يعني أداءً مروريًا ممتازًا، لكنه قد يُفسر كفشل إداري. هذه الصورة المعكوسة تُسمى “الرؤية”، وهي الفهم الذي تُبنى عليه أعمال الدولة. غياب “الرؤية” يخلق واقعًا يقيس فيه شرطي المرور نجاحه بعدد المخالفات وليس بالامتثال للقانون، وتحاسب الحكومة مدير المرور بمقدار الغرامات وليس بمدى التزام السائقين.
هذا المفهوم يتمدد ليشمل كل أعمال الدولة. يجب دائمًا طرح سؤال حول “الرؤية” التي يُبنى عليها أي مشروع أو عمل إداري أو وزاري. لنبدأ من الأعلى:
قرأت أمس خبرًا عن السيدة وزيرة الصناعة، التي أعلنت بدء حصر المصانع تمهيدًا لعودتها إلى العمل في مواقعها بالعاصمة. هنا يبرز السؤال الجوهري: على أية “رؤية” تستند الوزيرة لإعادة تشغيل هذه المصانع؟
لو أجرينا فحصًا دقيقًا لهذا التصريح، لوجدنا أنه يركز على “الأرقام”: عدد المصانع التي عادت للعمل، وربما عدد الاحتفالات المتوقعة بعودة كل مصنع، على غرار الاحتفال الذي أُقيم لعودة بعض محلات شارع الحرية بالخرطوم. هذا النهج لا يخرج كثيرًا عن العرف الحكومي السائد. ولو كنا دولة تتمتع برفاهية الاستقرار، لما كان هذا النهج مثيرًا للدهشة. لكن واقعنا أننا دولة متخلفة كثيرًا عن محيطها العربي والإفريقي، وشعبنا يعاني من الفقر، وتدني الخدمات، وصعوبة الحياة.
التمسك بالنهج القديم يعني التمسك بالتخلف والفقر. يجب أن تكون “الرؤية” هي البوصلة التي توجه أعمال الدولة، ليس فقط لتحقيق أرقام، بل لتحقيق تغيير حقيقي يعالج جذور المشكلات ويلبي تطلعات الشعب.
حديث_المدينة الثلاثاء 19 أغسطس 2025