كتب / أحمد علي عبدالقادر
في زوايا المكاتب الحكومية، حيث الأوراق تتناثر، والتقارير تتراكم، هناك أمانة عظيمة يحملها كل موظف دولة، سواء كان في جهاز حساس أو قطاع عام. تلك الأمانة ليست مجرد وظيفة ينتهي دوامها عند مغادرة المكتب، بل هي عهدٌ بينك وبين الوطن، وبينك وبين الأجيال القادمة.
البعض قد يغريه المال، قد يخدعه وهج الأرقام في الحسابات البنكية، أو يعده العدو بأمانٍ زائف، فيظن أن بيع المعلومة مجرد “خدمة” بسيطة لا تؤثر. لكنه لا يدرك أن تسريب سطرٍ واحد قد يسقط مدينة، وأن همسةً في أذن العدو قد تؤدي إلى فقدان آلاف الأرواح. الخيانة ليست خياراً سياسياً، بل جريمة أخلاقية ووطنية، والطريق إليها يبدأ بخطوة صغيرة من التهاون ثم ينتهي بدمارٍ لا رجعة فيه.
أتذكّر يوما، منذ سنوات، حينما وقعت في يدي معلومة كانت تعني السودان كله. لم أتناقش فيها مع أحد، حتى مع نفسي، لأنني أعلم أن السر الذي يعرفه اثنان لم يعد سراً. خزّنتها في مكان لا تصل إليه يد، ولا يقترب منه فكر. حتى وإن حاولت استرجاعه، كنت سأضيع بين دهاليز الذاكرة التي صممتها لحماية هذا الوطن. كان من منحني هذه المعلومة شخصاً لا أتفق معه، لكن الوطن عندي فوق الخلافات، فوق الأسماء، فوق الأيديولوجيات.
الوطن ليس شعاراً نردّده في المناسبات، ولا أغنيةً نحفظها في المدارس، بل هو اختبار يومي لمدى نزاهتنا وإخلاصنا. الموظف الذي يبيع شرفه المهني من أجل المال، سيفعل الشيء ذاته مع أهل بيته، وسيتحوّل مع الزمن إلى مجرد عميل يتاجر بكل من حوله. فلا تكن ذلك الشخص.
حماية أسرار الدولة ليست مجرد قانون إداري، بل هي ثقافة، هي وعي، هي إحساس داخلي بأن هذا الوطن يستحق أن نموت من أجله ولا نساوم عليه. فإن كنت تملك شرفًا، فكن مستعداً لتحمل تبعاته، حتى لو كلفك ذلك حياتك. لأن الموت بشرف، أشرف ألف مرة من العيش بخيانة.
كن حارساً على وطنك، لا تستهِن بالمعلومة، ولا تظن أن الأمر بسيط. فقد يكون حرفٌ واحدٌ منك، هو الفرق بين نصرٍ وهزيمة، بين بقاء وزوال.